للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة]

مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: التأمل والتملي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما ما تقرُّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن له -تبعاً لذلك- الجوارح مما منحه الله ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل؛ فلو قارن المكروب بين ما أٌخذ منه وما أعطي لاشك أنه سيجد أن ما أُعطيَ من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجلَّ، وكل ذلك عنده بحكمة، وكل شيء عنده بمقدار.

فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب.

قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.

ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:٦٢].

فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل.

هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟ إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة! فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟

إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس فيما هنالك

ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان.

يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها} قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟ - قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]].

صلى عليه الله جل جلاله ما لاح نور في البروق اللُّمَّع

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}.

وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}.

وفي سنن الترمذي: {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:٧١ - ٧٢].

وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله.

فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب! وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم.

فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم.

فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع.

فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام.

وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه.

فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}.

أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.

هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها.

وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف: فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء.

قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي.

قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء.

قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}.

يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون! أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى:

يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج اللهُ

اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ

الله يحدث بعد الكرب ميسرةً لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ

إذا بُليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

واللهِ مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ