[حقيقة النعيم عند الصحابة المجاهدين]
خرج الأصحاب -رضوان الله عز وجل عليهم- مجاهدين، فإذا الستة منهم يركبون بعيراً واحداً، حتى نقبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم؛ في يومٍ صائف ولا نعال، فجمعوا الخرق على أرجلهم يتقون بها الحر والصخر، فسميت الغزاة بـ (ذات الرقاع).
إنها النفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها، ولو كان في ذلك أذاها، إذ النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن يجد يجد، والنفس إن تعبت فربما راحة جاءت من التعب.
خرجوا يوم بدر لا يريدون القتال، إنما يريدون الغنيمة، فإذا الغنيمة غير الغنيمة، فاشتدت العزيمة بعد المشورة يوم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أشيروا عليَّ أيها الناس؟} فإذا العزيمة في أوجها وفي قوتها، فإذا بقائل المهاجرين يقول: امض لما أراك الله يا رسول الله، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
وإذا بقائل الأنصار يوقظ المشاعر، ويدفع المتردد إلى الإقدام، وينبه الغافل إلى النصرة ولو كان الثمن النفوس، فيقول: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمرٍ فأمرنا تبعٌ لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
وتنفرج أسارير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل المذهبة، ويقول: {سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم}.
خرجوا -معاشر المؤمنين- لغنيمة دنيا، فأصابوا الدنيا والأخرى
أسد جياعٌ إذا ما وثبوا وثبوا
واليوم من عمر أسود الأجمِ بألف عامٍ من حياة الغنم
عش ساعةً في لجج البحار ومت شهيد الحق في التيار
الموت في الوغى وفي الميدان ولا حياة الأسر والهوان
الفراشة تبذل الحياة رخيصة في لذة لمحةٍ تطوف بها حول السراج، وحالها:
أنال بها شرفاً في الجهاد وأصبح من بعد هذا رمادا
أحب احتراقي بنار اشتياقي ولا أرتضي عيشة الخاملين
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
هؤلاء الأصحاب كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب، ولقد كان أحدهم يمسي لا يجد عشاءً إلا قوتاً، فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني، لأجعلن بعضه لله، ثم يتصدق ببعضه وهو أحوج ممن يتصدق عليه وحاله:
إذا كان بعض المال رباً لأهله فإني بحمد الله مالي معبدُ