[أحوال الناس مع الصلاة]
وغاد آخر يغدو ليترك الصلوات، ويتبع الشهوات، فيوبق نفسه، كأنه لم يسمع قول ربه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:٥٩] وقال في الآية الأخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:٤ - ٥] وويل وغي أودية في جهنم، تستعيذ جهنم من حرها، لو سيِّرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:٤٢ - ٤٣].
ويغدو بعض الناس إلى الملاعب ويترك المساجد، يغدو إلى كل مكان إلا هذه البقعة التي فيها الصلة بالله جل وعلا.
الصلاة ركن مهم، ومن أهميته فرضه الله عز وجل من فوق سبع سماوات، يُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى، لتفرض عليه خمسين صلاة، ثم تخفف إلى خمس بأجر خمسين، فضلا من الله ونعمة، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
ومع ذلك يغدو الغادي فيتركها، ألا إن من تركها فقد كفر.
ذاك قول نبينا صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر}.
والكفر يترتب عليه أمور -الذي يترك الصلاة وينصح فلا يعود- لا يزوج، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ويفسخ العقد ولا تطلق؛ لأنها اختلفت الملة هاهنا، وإذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، ولا يستغفر له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:١١٣] وهناك غاد آخر ما ترك الصلاة، لكنه غدا ليصليها في بيته، وقد فوت على نفسه أجراً عظيماً، وارتكب إثماً كبيراً، إن الله جل وعلا يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] ويقول أيضًا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:٣٦ - ٣٧].
تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {يكون النبي صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله؛ يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعجن عجينه، فإذا سمع الله أكبر، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}، ناداه منادي الله جل وعلا فترك كل شيء وذهب إلى المسجد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هو القائل -كما في البخاري - روى سمرة بن جندب في رؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- ورؤيا الأنبياء حق ووحي- يقول: {أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي حتى أتينا على رجل مضطجع -ممدود- وآخر قائم عليه بصخرة، فإذا هو يثلغ رأسه بالصخرة، فيتدهده الحجر، ويشدخ رأسه، ثم يصحُّ رأسه ويعود كما كان، ثم يأخذ الحجر مرة أخرى ويفعل به مثلما فعل في المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله! ما هذا؟ قال: هذا الرجل يقرأ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة}.
أما إن الذي لا يصلي مع المسلمين والذي يترك الصلاة قد رفض القرآن أولاً، ونام عن الصلاة المكتوبة ثانياً، وكفاه عقاباً مثل هذا الحديث، كفاه تهديداً مثل هذا الحديث إن كان له قلب: {ثلاثة لعنهم الله: رجل أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب}.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً، خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجب]].
وكانت علامة المنافقين: أنهم إذا سمعوا حي على الصلاة تأخروا وأعرضوا، لذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معي معهم حزم من حطب فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
وفي رواية أخرى: {ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أفيغدو الغادي فيترك الصلاة؟! أفيغدو الغادي فيترك الجماعة؟! والله! لو لم يكن في الجماعة إلا يوم أن تخرج من بيتك، فما من خطوة تخطوها إلى المسجد إلا كان لك بهذه الخطوة حسنة، ومُحِي عنك سيئة، ورفعت لك بها درجة، والله من فرط في هذا الأجر فهو لما سواه أكثر تفريطاً، وهو لما سواه أكثر غفلة وسهواً -يا أيها الإخوة-
فهذا غاد وكلكم غاد، فمنكم من يوبق النفس، ومنكم من ينجيها ويعتقها.
أما الآخر: وهو الذي عرف الله جل وعلا، وعلم أن الله عليه رقيب، وأنه له حسيب، فيغدو إلى المسجد ليصلي مع جماعة المسلمين، فيعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح، ويا لها من منقبة عظيمة -ناهيك عما ذكرت قبل قليل- ساهم فيها المسلمون، وركض إليها صحابة رسول الله، ولا زال يركض الراكضون لهذه الفضيلة، أن يعد لك في الجنة منزلاً كلما غدوت وكلما رحت.
هاهو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير كان كثيرًا ما يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.
فيقول أبناؤه: أبتاه! تكثر من هذه الدعوة، فما الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد.
وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب، فيقول لأبنائه -وقد سمع المنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر-: احملوني إلى المسجد، قالوا: قد عذرك الله من فوق سبع سماوات، أنت مريض، أنت معذور، قال: لا أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، احملوني إلى المسجد، فأخذوه بينهم حتى وضعوه وأقاموه بالصف وهو في سكرات الموت، فأدخلوه في الصف، فصلى وعندما سجد كانت السجدة الأخيرة؛ ليلقى الله عز وجل وهو ساجد: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]؟ وهاهو حاتم الأصم -عليه رحمة الله- يتخلف مرة واحدة عن الجماعة، فيأتيه بعض أصحابه يعزونه في تخلفه عن الجماعة -وكان يعزي بعضهم بعضاً في تخلفهم عن الجماعة- قالوا: أحسن الله عزاءك في جماعة قد فاتتك، وكانوا قلة، فبكى -رحمه الله- قالوا: ما يبكيك؟ قال: فاتتني جماعة فلم يأتني إلا بعض أهل هذه المدينة، ولو مات أحد أبنائي لعزاني أهل المدينة كلها، ووالله لفوات أبنائي جميعا أهون عليَّ من فوات هذه الجماعة؛ لأنه يعلم أن هذه تنفعه، أما الولد فالله أعلم، هل ينفعه أم لا ينفعه؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.