للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبر وعظات على الصبر]

يعقوب عليه السلام يفقد حبيبه وابنه وفلذة كبده يوسف عليه السلام مدة أربعين عاماً، فيصبر ولا يشكو إلى أحدٍ وإنما يشكو إلى الله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦].

أما الآخر؛ فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله -كما سمعتم من هذا الذي ذكرت الآن- فيعوضه الله ويبشره: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأيت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وعند الترمذي: {أن الله عز وجل يقول للملائكة: قبضتم روح ابن عبدي المؤمن؟ -وهو أعلم سبحانه وتعالى- قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.

قال: فماذا قال؟ قالوا: حمدك واسترجع -قال الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال الله: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٦].

ذكر الذهبي وابن كثير عليهما رحمة الله أن عروة بن الزبير أحد علماء المدينة، الذي كان يقطع يومه صائماً غالباً، ويقطع ليله قائماً، ويختم القرآن في كل أربع ليال مرة، أخذ ابنه وسافر في يومٍ من الأيام، وأصابته الآكلة في رجل قدمه.

-وهو ما يسمى الآن بالسرطان- فجاءوا به إلى الأطباء فقالوا: نقطعها من القدم.

قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب، فصعدت الآكلة إلى الساق، فقالوا نقطعها من الركبة.

قال: لكني أنتظر وأصبر وأحتسب.

فدخلت إلى الفخذ فقالوا: يخشى عليك.

قال: الله المستعان! سلمت أمري لله، فافعلوا ما شئتم.

فجاء الأطباء، وتجمعوا بمناشيرهم وجاءوا ليس لديهم مخدراً كما لدينا الآن، ما عندهم إلا كأس الخمر، فجاءوا له بكأس خمر، وقالوا له: اشرب هذا عله أن يذهب عقلك فلا تحس بألم القطع.

فصاح وقال: عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر؟! لا والله! لكن إذا أنا توضأت، ووقفت بين يدي الله وقمت لأصلي، وسَبَحَتُ مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما شئتم.

فتوضأ ووقف بين يدي الله، وجمعوا مناشيرهم، وسَبَحَ مع آيات الله البينات، وقاموا يقطعون في رجله بالمناشير، وإذا بالدماء تنزف، وإذ به يخر مغشياً عليه، وفي تلك اللحظة كان ابنه محمد وراء ناقة من النوق يطاردها فرفسته فأماتته.

مصيبتان في آن واحد أفاق من غيبوبته، فقالوا له: أحسن الله عزاءك في ابنك محمد، وأحسن الله عزاءك في رجلك.

فقال: الحمد لله رب العالمين، أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم يا رب! إن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة من الولد وأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأعطيتني أربعة من الأطراف فأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

صبر وأي صبر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥].

سمع به الوليد فطلب أن يأتي إليه، فذهب إليه في قصره، ودخل على الوليد وجلس عند الوليد وبه من الهم ما به؛ لكنه فوض أمره إلى الله جل وعلا، فجاء طفل صغير من أطفال الوليد وقال: ما أصاب عروة ما أصابه، إلا بذنب أصابه، فقال: لا والله!

والله ما مديت كفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

ولا دلني سمعي ولا بصري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي

لعله يتسلى به، فخرجوا يبحثون، فإذا هم برجلٍ أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة، فأدخلوه ويوم أدخلوه على الخليفة قال: ما خبرك؟ قال أنا رجل من بني عبس، والله! ما كان في بني عبس رجل أغنى مني، كانت عندي أموال كثيرة، وكان عندي أولاد كثر، كان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما يعلمه الله جلَّ وعلا.

ثم عزب لي قطيع من الإبل، فخرجت أبحث عن هذا القطيع أتلمس، قال: ثم عُدتُ بعد ثلاث أيام وقد رجعت بالقطيع، فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي فلم يبق لي ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً.

فإذا الديار خرابٌ بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب

قال: فوقفت وإذا أنا بطفلٍ صغيرُ معلَّق بشجرة -طفلٍ صغير من أطفاله لم يبق سواه- قال: فتقدمت إليه وأخذته وضممته على صدري وأنتحب، قال: وإذا بأحد الجمال يند ويهرب، قال: قلت: ضيعت كل شيء من أجلك لأرجعن بك، فترك ابنه الصغير قال وبينما أنا أطارد الجمل، وإذا بصوت الطفل الصغير يصرخ، فإذا ذئب قد أخذه وسحبه من أمامي.

مصيبة أي مصيبة!! قال: فبقيت وراء الإبل لم يبق لي إلا الإبل، أريد أن أستعيد هذا الجمل، قال: فذهبت وراءه أطارده، وإذ به يرفسني فيعمي عيني، فإذا أنا في الصحراء لا أهل ولا مال ولا صديق ولا صاحب ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو، وجئتك ووالله ما جئتك يا وليد شاكياً! ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عباداً يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره إذا قدر: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٦].

ها هو أبو ذؤيب الهذلي يموت له ثمانية أبناء في يوم واحد بالطاعون؛ فيحمد الله، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويصبر ثم يقول بعض أبيات من الشعر هي عظة وعبرة يقول:

ولقد حرصت بأن أُدافع عنهم وإذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ

وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أُريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع

فأي الغاديين أنت؟ فكلٌّ يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.