[وفاة الصديق رضي الله عنه]
صورة أخرى: وحلت سكرات الموت بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقد عهد بالخلافة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه، قائلاً واضعاً دستوراً معيناً: [[إن عدل فذاك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٢٢٧]]].
جاءته السكرة رضي الله عنه بعد أن قدم للرسالة والرسول والأمة ما قدم، حتى قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وقال: حسن غريب: {ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها، إلا أبا بكر فإن له عند الله يداً يكافئه بها يوم القيامة}.
ثم يقول أبو بكر وهو في السكرات لابنته عائشة كما في كتاب الخلفاء للذهبي: [[أما إنا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهماً ولا ديناراً، ولكنا أكلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي، فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي]] فما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ خلف عبداً حبشياً، وبعيراً كان يسقي عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، بعثت بها عائشة إلى عمر، فلما جاءته بكى عمر حتى سالت دموعه، ونشج وهو يقول: [[رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، فيقول الصحابة: يا عمر! ردها على عياله فهم أحوج لها، قال عمر: والذي بعث محمداً بالحق نبياً لم يكن ليخرجها عند الموت، وأردها على أهله بعد الموت، ولكن أهله أهلي وعياله عيالي]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا أسلم الروح أبو بكر إلى بارئها، فأسكت فم لطالما جلجل بذكر الله، ودعا إلى الله، وأغمضت عينان لطالما سهرتا وبكتا من خشية الله، واستراحة يدان لطالما دافعتا وجاهدتا مع رسول الله، ودّع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلاً للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي، جاهد في الله حق جهاده طيلة أيام رسول الله، ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك المواقف، في أحد والأحزاب وحنين وجميع المشاهد، ولما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، يوم وسد الأمر إليه لم يحد عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر أُنملة.
فحقق في سنتين ونيف ما لا يفعل في مئات السنين، والبشر لا تقاس بأعمارها، لكن بهممها وأعمالها، وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فرضي الله عمن خطها وأرضاه، وجزاه الله خير ما جزى خليفة عن رعيته، بل عن أمته المسلمة إلى يوم القيامة، قد حفظ الله به الدين، وأعز به الحق المبين، ونصر به الإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون! أولئك آباؤنا وهاهم أجدادنا فمن نحن؟
أبواب أجدادنا منقوشة ذهباً وهاهياكلنا قد أصبحت خشباً
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وبعضنا اليوم من أعدائنا شرباً
إني أبشر هذا الكون أجمعه أنّا صحونا لنبني للعلا عجباً
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضباً
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنباً
أنتم كهم، ومن يشابه أَبَهُ فما ظلم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
لا أريد أن أطيل الحديث بحياة أبي بكر رضي الله عنه، وإن كانت حياته جديرة بأن نطيل فيها الحديث، لكن لعل هذه الإشارات كافية في مثل هذا الحين.