للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت]

معشر الإخوة: إليكم صورة للمواجهة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة؛ حُسمت فيها النتيجة لحزب الله أهل الآخرة قبل المواجهة المسلحة.

فلكل راضٍ بالهوان قرارة يحتلها ولكل راق سُلَّمُ

لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر، بعث إلى المقوقس حاكم مصر عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجعله متكلم الوفد، وكان عبادة شديد السواد، مفرط الطول مهاباً، فلما دخلت رسل المسلمين على المقوقس هابهم، وقال: [[نحوا عني ذلك الأسود وقدموا غيره ليكلمني، فقال الوفد: إن هذا أفضلنا رأياً وعلماً، مقدَّمٌ علينا، نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، أمَّره الأمير علينا وأمرنا ألا نخالفه، وإن الأسود والأبيض عندنا سواء، لا يفضُل أحدٌ أحداً إلا بدينه وتقواه، فأومأ إلى عبادة أن يتكلم في رفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة: إن فيمن خلفتُ من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي، وأشد وأفظع سواداً مني، لو رأيتهم كنتَ أهيبَ لهم مني، ولقد ولَّيتُ وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وأصحابي همُ هم، رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله ما يبالي أحدنا أكان له قناطير الذهب أم كان لا يملك إلا الدرهم، نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ما هو برخاء، بذلك أمرنا الله وعهد إلينا نبينا، تقضَّى زمن الحل وهذا زمن العقد]].

بعض المواقف يا رجال حرائرٌ والبعض يا بن الأكرمين إماءُ

وقع الكلام منه موقعاً عظيما، فقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا قط؟! لقد هبتُ منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وما أظن ملكهم إلا سيغلب الأرض كلها.

نعم:

كلماتهم قُضُبٌ وهن فواصلُ كل الضرائب تحتهن مفاصلُ

إنما الألفاظ نطقٌ ورسومْ والمعاني روح هاتيك الجسومْ

ثم أقبل على عبادة ليسلك معه طريق الإرهاب في قالب النصح، فيقول: قد سمعتُ مقالتك، ولَعَمْري إنكم ما ظهرتم على من ظهرتم إلا بحب الدنيا، ولقد توجه لقتالكم ما لا يحصى عدده من الروم ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، فنفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة، ولخليفتكم ألفاً، خذوها وانقلبوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.

عجباً له من أسلوب شفقة الضرة على الضرة، إنه ليعلم أنهم ليسوا بطلاب دنيا، ولكنها محاولة رجل يائس أراد أن يصنع شيئاً يُعْذَر به أمام قومه.

يحاول الأقزام دائماً -معشر الإخوة- أن يستنزلوا العظماء من عليائهم ليشاركوهم تدني أفكارهم إنه يعرض هذه المساومة وهو يدرك ويعترف أن المسلمين بلغوا منزلة تخولهم لملك الأرض كلها، ومع ذا يعرض عروضه المتدنية على قوم حالهم:

اشترانا منا فقلنا ربحنا لا نقيل يا رب ولا نستقيلُ

لكن:

ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ

تعجب عبادة من هذه العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، وقال بصوت كله ثقة وإيمان: [[يا هذا! لا يغرنك مَن حولَك لا تغرنك نفسُك لا يغرنك أصحابُك، لعمر الله! ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا والله ما هذا بالذي يردنا عما نحن فيه، ولئن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوان الله وجنته، والله ما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من أن نقتل لتعلو كلمة الله، والله ما منا رجل إلا وهو يدعو الله صباح مساء أن يرزقه الشهادة في سبيله، وألا يرده إلى أرضه ولا إلى أهله إلا بنصر المسلمين، فانظر فليست إلا خصلة من ثلاث، اختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في باطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ إلينا، هذا ديننا الذي ندين الله به، فانظروا لأنفسكم]].

فليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ

أنبقى في الحياة بلا لسان وقد نطقت بحاجتها الحميرُ

قال المقوقس: أفلا تجيبون إلى خصلة غير هؤلاء الثلاث؟ فوقع قول المقوقس على آذان صماء من عبادة، ورفع يديه يشير إلى السماء مرة ويخفضها إلى الأرض أخرى.

ويبعثها حرة لا تضيقُ بكيد العواذل واللوم

يقول: [[لا ورب هذه السماء، لا ورب هذه الأرض، لا ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم]].

نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما

كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما

عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس: أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله.

أدت رسالتَها المنابرُ وانبرى حد السلاح بدوره ليقولا

آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ

ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني

فأذعنوا وذَلوا وخنعوا ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص.

يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ

لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله أن البقاء للأصلح: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧].