للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة]

يكتب ملك كستانة في أواخر القرن السادس إلى السلطان المسلم أبي يوسف المراكشي يهدده ويعنفه، ويطلب منه تسليم بعض بلاد المسلمين، وكان فيما قال في غطرسة وكبرياء: أراك تماطل نفسك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطَّأَ بك، أم التكذيب بما وعدك نبيك.

فلما قرأ أبو يوسف الكتاب تنمَّر، وغضب، وتربد وجهه، وأرغى وأزبد، ثم مزقه وكتب على رقعة منه بقلم يفتك الشعور ويفلق الصخور: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:٣٧] الجواب ما ترى لا ما تسمع.

فلا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرمِ

...

وقام قيام الليث فار غليله وقد برِّزت أنيابه ومخالبهْ

استنفر الناس، ودعا للجهاد، ورغب في السعادة، وحاله:

أججوها حمما وابعثوها حمما

قربوا مني القنا قد كسرت القلما

...

دوت بكل قبيلة ومحلة صيحاته فتجاوبت أصداؤها

سارع مائة ألف مسلم متطوع للبذل والتضحية، والذب عن بيضة المسلمين، وإعزاز دين رب العالمين؛ لينضموا إلى الجيش الذي يبلغ مائة ألف من الموحدين، حال الواحد منهم:

ارمِ بي كل عدو فأنا السهم السريع

وإلا:

فلا نعمت نفس ولا أفلح امرؤٌ ولا انهال هطَّال ولا لاح مشرقُ

مضى الليث إلى الأندلس بجيش يؤمن بالله، ويستقي من نبع وحي الله شعاره: تكبير الله، وهذا ما وعدنا الله، وصدق الله، وحسبنا الله.

فكانت الملحمة التي تنزل معها نصر الله على حزب الله، فقتلوا من العدو مائة وستة وأربعين ألف قتيل، وأسروا من أسروا نصراً من الله، وحقت كلمة الله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:١٢٦].

معشر الإخوة والبنين! والله ما قام عبدٌ بالحق وكان قيامه لله وبالله إلا لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له منها فرجاً ومخرجاً، وإنما يؤتى من تفريطه وتقصيره.

فاعلم أيها السامي للسما:

مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ

...

فما رميت ولكن الإله رمى فكيف يُهْزَم مَن بالله ينتصرُ

والله أكبر صوتٌ تقشعر له شمُّ الذرى وتكاد الأرض تنفطرُ

معشر الإخوة! نَصَر الله ذلك الجيل، لأنه أخذ بمقومات النصر، استقى من نبع الوحي، وطبق ونفذ، وتميز وفاصل، وضحى بالزائل، فكانوا السماء بحق، صدورُ محافل، وقادةُ جحافل، يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، والباطل زاهق نافر، يقذفون بعزائمهم فإذا الكفر مكسور، والإيمان منصور.

إن تلك المقومات للسمو إلى السماء لم تبلَ ولم تمت؛ إنما هي كامنة، وتلك الشعل لم تنطفئ فهي في كنف القرآن والسنة آمنة، فلا يزال الله يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، إنهم من كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكن أو لا تكون:

ومن يجد ترباً وماء غرسا وبذل المال وحاط الأنفُسا

...

فبادر أُخَيَّ لرفع اللواء على كل قِطْع ولا تحجمِ

وزف هدى الله للعالمين بآياتِ قرآنك المحكمِ

سمواً سماءً بوحي الإله وجاهد وصابر ولا تسأمِ