إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لايخطئ، وميزان لا يظلم؛ يكشف عما في القلوب؛ ويظهر مكنونات الصدور؛ ينتفي معه الزيف والرياء؛ وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة؛ فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط، عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}[آل عمران:١٥٤].
بالمحن تستيقظ الضمائر، وترق القلوب، وتتوجه إلى بارئها؛ تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه معلنةً تمام العبودية والتسليم الكامل له، لا حول ولا قوة إلا به، لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو
باقٍ فلا يفنى ولا يبيد ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة وحاكم جل بما أراد
سبحانه وبحمده!
عباد الله: وصور المحن والمنح في السيرة كثيرة وجليلة، وجديرة بالتملي والتأمل، والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه، حديث تحبه وتجله النفوس المؤمنة، تأنس به قلوب بالإيمان هانئة مطمئنة، حبه في شغاف القلوب والأفئدة، وتوقيره قد أُشْرِبَتْ به الأنفس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.