[حال السلف في طلب العلم]
أيها الحبيب: وأنت تطلب العلم أقول لك: ارجع إلى سلفك فإن لكل إنسان سلفاً، وسلفنا بإذن الله عز وجل هم خير القرون، قرن النبي صلى الله عليه وسلم ثم القرن الذي يليه، ثم القرن الذي يليه، وارجع إليهم كيف كان حالهم.
الإمام الشافعي عليه رحمة الله يجتمع به بعض طلبة العلم فيقولون: يا إمام ما شهوتك في طلب العلم؟ قال: إني لأسمع بالكلمة مما لم أسمع، فتود أعضائي أن يكون لها آذان، فتستمع لما استمعت له أذني -أي أن كل عضو يتمنى أن له أذنين ليستمع إلى هذه الفائدة- قالوا: فما حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على ماله -حرص البخيل على ماله- قالوا: فما طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة لولدها ليس لها ولدٌ غيره -امرأة ما معها إلا واحد وضاع منها فهي تطلبه في كل مكان بكل ما أوتيت من قوة- ثم يقول بعد ذلك:
ولست بمدركٍ ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو اني
يقول أحمد فارس اللغوي:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
إذا كان كلما جاء وقت قلت: نؤجله للوقت الثاني، يأتي الخريف بيبوسته فتقول: نؤجله للشتاء، يأتي الشتاء ببرده فتقول: نؤجله إلى الصيف، يأتي الصيف فتقول: نؤجله إلى الربيع، يأتي الربيع فتقول: نطلع ونتمشى ونذهب ونأتي.
كيف إذاً تطلب العلم؟! متى تأخذ العلم إن لم تأخذه في كل وقت، وتجند من وقتك جزءاً عظيماً للعلم؟!
إن الدعوة بلا علم توقع الإنسان في البدع.
إن المبتدعة عندما وقعوا في بدعتهم دعوا إلى الله بلا علم، والسلاح الأول لكم -أيها الدعاة- هو طلب العلم، ولذلك خذوا أمثلة على ذلك أيضاً، لأن الإنسان إذا نظر إلى قدوة حية أمامه -أو قدوة ميتة أيضاً- قد يحاول أن يقلدها لأنه تعجبه خصالها.
الإمام النووي عليه رحمة الله: ما كان يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم، ويشرب شربة واحدة وقت السحر، ولا يأكل الفاكهة يقول: ترطب جسمي فتجلب لي النوم، ووالله إن أحب ما إلي أن أطالع في الكتب، ثم يلقي في اليوم الواحد أحد عشر درساً، ومنكم من هو يدرس الخمس الحصص ويراها تقض المضاجع، فما بالك بأحد عشر درساً في اليوم الواحد؟!
الإمام المنذري عليه رحمة الله: يقول أحد تلاميذه: جاورته اثنتي عشر سنة، والله ما قمت في ليلة من الليالي في أول الليل أو في آخره إلا وهو مضيء سراجه وهو يقلب كتب العلم.
شهوتهم في العلم، اشتهوا العلم، فعملوا لهذا العلم، فأنتجوا ما أنتجوا.
الإمام أحمد عليه رحمة الله: يقول عن أمه: كانت توقظني قبل صلاة الفجر، فأصلي الفجر في المسجد، وتذهب معي وعمره عشر سنوات قد حفظ القرآن، ثم بعد أن بلغت السادسة عشرة -انظروا إلى الأم، يا ليت الأمهات يسمعن مثلما نسمع من أم أحمد، ويا ليتهم يعرفون سيرة أم أحمد ليربوا الشباب على طلب العلم وعلى الدعوة إلى الله عز وجل- يقول: عندما بلغت السادسة عشرة قالت لي: يا بني هاجر في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرةٌ في سبيل الله، ثم زودته ببعض أرغفة من الشعير، وقالت له: اذهب إلى المدينة وإلى مكة وإلى صنعاء واطلب العلم، وعندما أراد أن يذهب قالت: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، ويذهب إلى مكة وإلى المدينة وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وهو الآن بعد هذه السنين كلها حيٌ بين أيدينا بعلمه، ما تدخل مكتبة من المكتبات إلا وتجد الإمام أحمد أمامك
يا رُبَّ حَيٍّ رُغامُ القبر مسكنه ورُبَّ مَيْتٍ على أقدامه انتصبا