يقول علي رضي الله عنه كما روى عنه مجاهد رحمه الله:[[جعت مرةً بـ المدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة]] كان بإمكانه وإخوته -رضي الله عنهم- لو أرادوا نعيم الدنيا أن يبقوا في مكة التي هاجروا منها بدينهم؛ أيسر حالاً، وأهنأ بالاً في عرف عامة الناس، ولكنهم بما حملوه من الوحي جعلوا السعادة كل السعادة في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والتضحية بكل ما لديهم من طاقةٍ في سبيل الله، وإن ألجأهم ذلك إلى أقسى الظروف المعيشية.
جاعت البطون، وحفيت الأرجل، وعريت الظهور، ولم يزالوا وقفاً لله مدركين أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
يخرج علي للعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس لينتظر ما تجود به أيدي المحسنين، كما يفعل بعض أبناء المسلمين، من يستعفف يعفه الله، ومن أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، وإن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}[الطلاق: ٢] * {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}[الطلاق: ٣].
يقول علي رضي الله عنه:[[وأنا في عوالي المدينة وإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً -طيناً جافاً- تريد بله بالماء، فأتيتها فقاطعتها، واتفقت معها على أجرة كل ذنوبٍ بتمرة -يعني: كل دلوٍ بتمرة- قال: فنزعت ستة عشر دلواً على معاناة شدة الجوع -والجوع يضعف القوة كما تعلمون- قال: حتى مجلت يدي وتورمت من العمل، فأتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها، فقلت بكفيَّ هكذا بين يديها -يعني: بسطهما يريد الأجرة- قال: فعدت لي ست عشرة تمرة، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بها، وأخبرته بما جرى، فأكل معي من ذلك التمر]] فياله من حبٍ ووفاءٍ، ونكرانٍ للذات، فهو على ما به من شدة الجوع، وما قام به من العمل الشاق؛ قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل معه، ولم تطب نفسه إلا بذاك.