توعد الله بالعذاب الأليم واللقاء الشديد من عصى والديه؛ لأن تلك معصية عظيمة فظيعة، وجريمة قبيحة شنيعة، يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وترعرع تغمط حق والديه يوم أذهبا زهرة العمر والشباب في تربيته، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبرا وضعفا ودنيا من القبر واحدودب ظهراهما، وقلَّت حيلتهما أنكر جميلهما، وقابلهما بالغلظة والجفاء، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.
لقد جعل الله عقوبة العاق عظيمة شديدة، وقد قرن الله حقه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الأرحام، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[الإسراء:٢٣] قضاؤه وأمره ألا يعبد إلا هو ومع عبادته لا بد من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إليهم، وأوصى الله وصية خاصة بالوالدين فقال:{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ}[لقمان:١٤] ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة، وفي حضنه في حجرها، ثم إرضاعه {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:١٤].
لقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله، ففي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال:{يا رسول الله! إنني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد حي؟ قال: نعم.
أمي.
قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله ببرها فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}.
يا أيها المسلمون: لا يجدر بعاقل مؤمن يعلم فضل بر الوالدين، ويعلم آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ثم يعرض عنه ولا يقوم به ويقابله بالعقوق والقطيعة، وهو يسمع نهي الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيه قال تعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}[الإسراء:٢٣] أنتم تعلمون أن الإنسان إذا كبر ضاقت نفسه، وكثرت مطالبه، وقل صبره، وربما صار ثقيلاً على من هو عنده، ومع ذلك فالله يقول:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}[الإسراء:٢٣ - ٢٤] في حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف قد تمكن منهما في البدن، وقد يكون -أيضاً- في العقل، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، في حال كهذه الحال ينهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر، وأمره أن يقول لهما قولاً كريماً، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فيخاطبهما خطاباً يستصغر نفسه أمامهما، ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما، ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في حالة صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.
يا أيها الإنسان: اذكر حال أمك وأنت حملاً في بطنها وما تلقى من المشقة والتعب في جميع أحوالها ليلاً ونهارا، وتفكر في أمرها حال ولادتها، ثم بعد أن ولدتك لا تنام الليل، تسهر لسهرك وتتألم لتألمك، تجوع لتشبع، وتتعب لترتاح، وأنت لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعا، أبعد هذا يكون جزاؤهم العقوق والقطيعة والشتم، أي قلوب هذه التي استمرأت العقوق؟! وأي أرواح هذه الأرواح التي ألفت القطيعة؟!