[الثبات مع الصدق حياة للأعمال وخلود للأقوال]
يا قاصد البحر: حلِّق، ثم خُض لُجة اليم بقلب مخلص كالجبل لا يتزحزح أبداً، أو بقلب كالنخلة أصلها ثابت وتهزها الريح، وإياك أن يكون قلبك الثالث كالريشة:
أينما الريح تميِّلها تَمِل
وجاهد فبالمجاهدة تُوفَّق وتُسدد
وَإذَا الأَرضُ أَجدَبتْ ذَاتَ يَومٍ فَهْيَ تَبغِي مِن زَارِعِيها اجْتِهَادا
يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصناً واحداً، فتُسقى فينتشر، ثم تُسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يُستظل به، وثمرة يؤكل منها.
كذلك الصدق مع الله، يبدو في القلب ضعيفا، فيتفقَّده صاحبه ويزيده الله، ويتفقده ويزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ليحيي الله به الفئام من الناس وصاحبه لا يعلم بذلك.
يروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع رحمة الله عليه، وقد كان يقول القاص: ما لي لا أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟
فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قِبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب.
يكفيك أن أقواماً تحيا القلوب بذكرهم، ناهيك عن كلامهم، وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب بل تموت بذكرهم، ناهيك عن كلامهم.
نعم -والله- يا من قصدت البحر، كم من كلمات ولدت ميتة، ومن ثَمَّ جُعلت هباء مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور، وكم من كلمات ولدت حية، وبقيت فيها الحياة مع حياة أصحابها وبعد مماتهم، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
بَينَ الجَوَانِحِ فِي الأَعمَاقِ سُكنَاهَا فَكيفَ تُنَسى ومَن فِي النَّاسِ يَنسَاهَا
الأُذْنُ سَامِعَةٌ وَالعَينُ دَامِعَةٌ وَالرُّوحُ خَاشِعَةٌ والقَلبُ يَهوَاهَا
والسر؛ إنه الإخلاص والصدق يمنح الكلمات روحاً، فتبقى فيها الحياة أبداً سرمداً، أو ينعدم الصدق والإخلاص ويضمحل، فإذا بالكلمات لا تهز أحياءً، ولا تنفع موتى، نَوحٌ مستأجرٌ بلا روح، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة.
لا يعرف الشَّوق إلا مَنْ يُكَابده ولا الصَّبابة إلا مَنْ يُعانِيها