[زد من الضرب وزد من الحديث]
الصفحة السادسة: زد من الضرب وزد من الحديث.
ذكر أهل السير أن هشام بن عمار عليه رحمة الله كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير، وكان معاصراً للإمام مالك عليه رحمة الله فجاءه في رحلة شاقة طويلة -فاسمع لها يا طالب العلم وعِهَا فلعل لك فيها عظة وعبرة- عن محمد بن الفيض الغساني قال: سمعت هشام بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني للحج وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال مالك رحمه الله قال: فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس الإمام مالك ومعي مسائل -أعدَّ مسائل يريد أن يسائل الإمام فيها- قال: وأريد مع ذلك أن يحدثني، قال: فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمانه قيام حوله، والناس يسألونه ويجيبهم، يتدفق كالبحر، قال: فلما انقضى المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلا للرواية.
فقال: حصَّلنا على الصبيان -يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان- يا غلام -لأحد غلمانه الذين حواليه- احمله، قال: فحملني كما يُحْمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فأخرجني.
يقول ابن جزرة: ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن وقال له: حدثني، فرفض الإمام مالك، يقول هشام: فكررت عليه وراددته فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشر سوطاً، قال: فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشر سوطاً.
فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام مالك فإذا به يبكي، فقال له: ما يبكيك يا هشام! أو أوجعتك؟ قال هشام: إن أبي باع منزله بعشرين ديناراً، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته سوى أني أطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا جعلتك في حلٍّ، لأسائلنك بين يدي الله.
فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنة بحق، فقال: يا بني! ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟
فقال هشام: أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجلس الإمام وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فسرد له خمسة عشر حديثاً، فقال بعدها: يا إمام! زد في الضرب، وزد من الحديث.
فضحك الإمام مالك وقال: اذهب.
فانظر يا طالب العلم! كيف عرفوا العلم وقدره، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه، باعوا بيوتهم، وقطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يُعْبد الله في الأرض على بصيرة.
هاهو الحافظ ابن عساكر عليه رحمة الله لاقى في تحصيل العلم ما لاقى من الشدائد مما تنقله كتب السير والتراجم وهاجر من دمشق إلى نيسابور وكانت ذات ثلج شديد، وبرد زمهرير لم يألفه في موطنه دمشق، وفي ذات ليلة تحت وطأة الغربة، وفراق الأحبة، وفراق الأبناء، وشدة برد البلدة -في نيسابور - قال يصور معاناته، ويذكر لأهله أنه لا زال على عهده أن يطلب العلم ثم يعود إليهم، فكان مما قال:
لولا الجحيم الذي في القلبِ من حُرَقي لفُرقة الأهلِ والأحبابِ والوطنِ
لمِتُّ من شِدةِ البَردِ الذي ظهرتْ آثارُ شدَّتِهِ في ظَاهرِ البَدَنِ
يا قومِ دُوموا على عهدِ الهُدى وثِقوا أنّي على العهدِ لم أغدِرْ ولَم أَخُنِ
ثم ذكر ما كان له من أسفار متواصلة، ورحلات في الأرض متباعدة في سبيل طلب العلم الشرعي، فقال رحمه الله:
وأنا الذي سافرتُ في طلبِ الهُدى سفرَيْنِ بينَ فدافدٍ وتنائفِ
وأنا الذي طوَّفت غيرَ مدينةٍ منْ أصبهان إلى حدودِ الطائف
الشرق قد عاينت أكثر مدْنِه بعدَ العراق وشامِنا المُتَعارفِ
وجمعت في الأسفار كل نفيسةٍ ولقيت كل مخالِفٍ ومآلف
وسمعتُ سنةَ أحمد منْ بَعد ما أنفقت فيها تالدي مع طَارفِي
صلى الله على نبينا محمد.
لله درهم! ما أمضى عزائمهم! وما أشد جلدهم وشوقهم لطلب العلم لوجه الله! وما أقواهم على الدخول فيما يريدون حين يريدون! طافوا الدنيا لتحصيل العلم، زرعوها بالأقدام زرعاً يوم لم يكن قطار ولا سيارة ولا باخرة ولا طيارة، طواف للبلدان، ونَصَب للأبدان، وكسب للزمان، لا راحة ولا استرخاء، لا صعوبة تمنعهم من لقاء العلماء، أمانيهم في تحصيل العلم، وخدمة هذا الدين تحدوهم إلى المزيد، وتنسيهم ما يلقون من تعب وعناء شديد، لسان حال بعضهم:
كَنَفِي بَعِيرِي إنْ ظعَنتُ ومَفْرشي كُمِّي وجُنحُ الليلِ مطرح هَوْدجِي
ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شُخُوصُهم فالنَّشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ
هل من مقتد بهم -يا طلبة العلم- في هذا الزمان؟
إن مرحلة تحصيل العلم شاقة تنقطع دون بلوغها حيازيم الصبر، وتنحسر أمامها عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازها إلا الأفذاذ الأبطال، من لم يستسلموا للكسل والتواني، ولو لاقوا الألاقي.
من لم يطيعوا التواني ولم يضيعوا الحقوق.
فيا طلبة العلم: اعلموا أن علوم الإسلام لم تدون في ظلال الأشجار والثمار، وعلى ضفاف الأنهار، إنما دوِّنت باللحم والدم والعصب، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي، على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه أحياناً، في ظل الجوع والعري، وانقطاع النفقة في بلاد الغربة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في الفيافي والقفار، والغرق في البحار، مع البعد عن الأهل والزوجة والدار.
لسان حال الكثير منهم من علماء الإسلام:
في الشام أهلِي وبغداد الهَوَى وأنَا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط خِلاَّنِي
بالصبرِ بلَغُوا ما أرادُوا:
والصبرُ يُوجدُ إنْ باءٌ له كُسِرَت لكنَّهُ بِسُكُونِ الباءِ مفقودُ
رحمهم الله، تحمَّلوا ما تحملوا لتدوين العلم، فلم يبقَ لك إلا أن تطلبه في مظانه بهمة الرجال التي تتصاغر وتتضاءل أمامها المشاق والمتاعب والأخطار، ولن يخيب الله مسعى من سعى، ولن يتخلف الصادق عن النبوغ؛ فالنبوغ صبر طويل كما قيل.
وإنَّ سِيادةَ الأقوامِ فاعلمْ لَهَا صُعَدَاءُ مَطلعُهَا طَوِيلُ
وأنت لها أهل.
خلَقَ اللهُ للخُطُوبِ رجالاً ورجالاً لقَصْعَةٍ وثَرِيدِ
فكن من رجال الخطوب لا من رجال القصعة والثريد، فمن ساير الأماني، وصاحب التواني، واستلذَّ المطاعم، واستحبَّ النوم، وشغلته تقلبات الفصول عن التحصيل فما أبعده عن العلم! وما أبعد العلم عنه! وما أنفره عن العلم! وما أنفر العلم عنه!
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
فكُنْ رَجُلا عَلَى العَلْياءِ جَلْداً وشيمتُك التَّصَبُّرُ للعَنَاءِ
فقلْ منْ جدَّ في أمرٍ يحاوِلُهُ واستَصْحَب الصَّبْرَ إلا فَازَ بالظَّفرِ
كَمْ حاجةٍ بِمكانِ النَّجْمِ قرَّبها طولُ التَّرَدُدِ فِي الرَّوْحَاتِ والبكرِ