[من آيات الله في النوم]
النوم: ما النوم؟ هل تأملته يوماً من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:٦٧] النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:٤٢] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:٦٠] {والله جل وعلا لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} كما في صحيح مسلم.
حي وقيوم فلا ينام وجلَّ أن يشبه الأنام
لا تأخذه سنةٍ ولا نوم، لا إله إلاّ هو.
هل تأملت ما يجري للإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم، كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكَرَى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم.
في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالاً، يتوقف البصر -أولاً- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة.
الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع، فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:٢٣] فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضاً: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:١١] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:٢٥] وتحقيقاً لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله تعالى السَّمع عنهم: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:١٨].
أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير، فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل تردداً، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم.
هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما، ألم يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفاً بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق:٣٧].
يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ
واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا مع النبيين والأبرار في الخلْد
هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟!
يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصاً نهض من فراشه نائماً، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئاً مما حدث له، لقد كان يتحرك وهو نائم، بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوه ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه.
من الذي قاد خطاه؟!
إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت، والنوم والانتباه، هو الإله المتصرف فيهم جميعاً؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:٦٢] {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذاً منحتكها ربي مهذبة شكراً على صنع ما أوليت من حسن
اللهم لك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.