[توبة الغانية التي أرادت إفساد الربيع]
هاهو شاب قوي وسيم -وأنا لا أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:١١١]- شاب قوي وسيم حييٌّ، عالم، في أوْج شهوته وشدة شهوته، لكن شهوته مربوطة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عمره لا يجاوز الثلاثين؛ هو الربيع بن خثيم، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد الربيع فقط، بل هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار.
تواصوا على إفساد الربيع، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله عز وجل، تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام:١١٦] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣].
فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت، أو في أي زمان كنت: {اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:٤٣ - ٤٤].
وكلنا ذوو خطأ! لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحتقر ذنباً، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر: {وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره} يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك للصحابة والتابعين.
أيها الحبيب! إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله سبحانه وبحمده، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده.
فيا أيها المخطئون! إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُّقَى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندماً يورث العين دمعاً، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعته، لو قال: في الدنيا يا رب لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدي، أشهدكم أني قد غفرت له.
وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذوو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسئولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحاً، وتراه مسروراً، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلاً حسيراً وَجِلاً خائفاً كسيراً مهاناً: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:٤٠] شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧].
يا من قسا قلبه! ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلّا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله عز وجل لهم؟ لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك قريباً ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة
القبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد