[دروس وعبر من غزوة تبوك]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت -كما عرفتم- بنصر المؤمنين، ولئن انتهت، فما انتهى نورها، وما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وفي كل ذكرى منها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هل يكفي سرد أحاديث الماضي والتغني بالذكر الغابر؟
هل يُجدي هذا وقد تشابكت بأمة الإسلام -في هذه الأعصار- حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، وتداعى عليهم الأكلة من كل فج؟ لا.
لابد أن نستفيد مما مضى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:١١١].
فهاكم بعض دروسها وعظاتها؛ علَّ الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد؛ ضُربت عليها الذلة والمسكنة.
دعِ المِداد وسطِّر بالدَّمِ القانِي وأسكتِ الفَمَ واخطبْ بالفمِ الثَّانِي
فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ منَ الفصاحةِ ما يزري بسحبانِ
وثانيها: أن الله تعالى كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت؛ فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: {ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج:٤٠].
وثالثها: أنه ما تسلل العدو سابقاً ولاحقاً إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧].
رابعها: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى، يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، ويتعلقوا به ويثبتوا ويصبروا، وعندها يُنصروا.
فهاهو سلفهم ابن رواحة يقول: [[والله ما نقاتل الناس بعَدد ولا عُدد، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به]].
خامسها: أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة.
فما هو إلا الوحيُ أوحدُّ مُرهَف تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل جاهل وهذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعا المصطفى دهراً بـ مكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلط له أسلموا واستسلموا وأنابوا
سادسها: أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، ولن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد صلى الله عليه وسلم سابقاً ولاحقاً، فهم يُجمعون أمرهم وشركاءهم، ويُعمِلُون مكرهم ودسائسهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].
سابعها: في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقياً منافقاً؛ تواطئوا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وتنفيذ الخطة -في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى تبوك ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم- ويصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، حذيفة آخذ بخطام ناقته، وعمار يسوقها، وإذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيولوا مدبرين، ويحفظ الله سيد المرسلين، وينزل الله قوله في المنافقين: {وهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:٧٤] ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهماً إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، ويدخل إلى قلبه؛ فلم ينجُ منهم أحد؛ فإلى جهنم، وبئس القرار.
ومن دسائس أعداء الله أنهم أرسلوا لـ كعب بن مالك رضي الله عنه يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره؛ أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن كعباً مؤمن، علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر:٢٥].
عباد الله: هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء، ويترصدون ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت! وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت!
أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب!
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
ثامنها:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى وألف مهند
قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، وتعلقت بهذا أوبذاك؛ إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنصَر
تاسعها: ألا وإن من أعظم الدروس -وليكن الأخير من غزوة تبوك -: والمسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة ومتغيراتهم الحثيثة، وهو الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد وكفى، فمن محرابه تنطلق قوافل المجاهدين، وبالجهاد ترد عاديات الطغيان؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة.
جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد صلى الله عليه وسلم مهيمناً.
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان: أجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم؛ فإن من لا يذد عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه ذليل حقير غير حقيق بالعزة؛ بل لا تحلو له الحياة.
اصبروا، وصابروا، ورابطوا، وبما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، واصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، وثقوا بالله واطمئنوا، وأبشروا، والعاقبة للمتقين: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٣].
خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعي
يا أمة الإسلام فانتفضي فإن الجرح غائر
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو مضطرب وحائر
وجريحنا الأقصى هوى وديس بالحوافر
فهناك تعبث في جوانب أرضه عُصَب الكوافر
وتسومهم ذلا وخسفاً كالبهائم في الحظائر
يا أمتي فلتنفضي عنك الغبار وتستعدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل إقدام وجدِّ
إن الجهاد به نرد لَجاجة الخصم الألَدِِّ
وبدونه نبقى على ما نحن من أخذ وردِّ
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود إلى رحابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها بوحي من جنابك
وأمدها بالنصر ليس النصر إلا من جنابك
هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر، وكتب السيرة تفيض بذلك؛ فاتقوا الله، وعوها، وطريق أسلافكم اسلكوها، عودوا فالعود أحمد، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:٥٦].
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام وللمسلمين.