صورة أخرى: روى ابن سعد في طبقاته أن عمر -رضي الله عنه- كان في سفر، فلما كان قريبًا من الروحاء سمع صوت راعٍ في جبل، فعدل إليه ونادى عمر: يا راعي الغنم! فقال له الراعي وقد عرفه: نعم يا راعيها! -يعني: يا راعي الأمة- قال عمر: لقد مررت بمكان هو أخصب من مكانك هذا، هو المكان الفلاني، وإن كل راع مسئول عن رعيته، ثم مضى عمر في طريقه.
الله أكبر! يوم ترى خليفة المسلمين ينصح راعي غنم، ويدله على مكان هو أخصب من المكان الذي هو فيه، ويذكِّره بأن كل راع مسئول عن رعيته بأن يختار لها ما هو أنفع، وأن يؤثر مصالحها في كل موقف.
عمر ينادي الراعي: يا راعي الغنم! والراعي يجيبه بقوله: نعم يا راعيها! أي: يا راعي الأمة، لا فرق في التزام المسئولية بين هذا وذاك.
مسلمون حقًا، ومؤمنون صدقاً:{يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم}.
إن سيرة عمر -رضي الله عنه- شاهدُ صدقٍ على أن الوالي المسلم راع مشفق، وناصح أمين، ورائد لا يكذب أهله.
عمر هو الذي كان يعالج البعير الأجرب ويقول للبعير: إني لخائف أن أسأل عما بك، ما أروعها من كلمات يستضيء بها كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين صغر الأمر أو كبر! فالمسئولية تحتِّم على كل من ائتمنه المسلمون على مصلحة من مصالحهم أن يتقي الله فيها، وأن يُحسن القيام بها؛ لينجو من العقاب غدًا.
هكذا كان الراعي مشفقًا على الرعية، شديدًا على نفسه، لعله يلقى العيش الرخي في دار الخلود.
من لي بجيل مستجدٍّ لم يرث إلا عن الجد القديم الأبْعَدِ
يرث أبا حفص في أصالةِ رأيه أو خالداً في عزمه المتوقِّد
جيل إذا سِيمَ الهوان أَبَى وإن يطلب إليه البذل لم يتردد
يهوى الحياة عقيدة، ويعافها فوضى ويُدْعى للفداء فيفتدي