للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم الاغترار بكثرة العمل]

وبادر قبل أن تُبَادَر! بادر قبل أن تُبادَر ولا تغترَّ بكثير عملك؛ فأعمالك الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنِّه عليك، ومع هذا فليست ثمناً لجزائه وثوابه، بل غايتها أنها بعد النصح والوقوع على أكمل وجه شُكْرٌ له على بعض نِعَمِه سبحانه وبحمده، فلذلك لو عذَّب الله أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.

في الحديث المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لن يُدخل أحد منكم الجنة عملُه.

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل} ألا إن المنفي هنا استحقاق الجنة بمجرد العمل، وكون العمل ثمناً وعوضاً لها.

فما العمل ولو عظم يساوي نعمة البصر؟! فادرِ وانتبه، وليكن حالك ومقالك:

إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رِقِّهم عَتَقُوهُم عتقَ أبرارِ

وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرِّقِّ فاعتقني من النَّار

أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن أبي مليكة، عن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه استأذن لـ ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة وهي تموت، وهي في سكرات الموت، وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقال لها: هذا ابن عباس يستأذن عليك، وهو من خير بنيك، فقالت: دعني من ابن عباس ومن تزكيته! فقال لها عبد الله: يا أماه! إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، حبيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأذني له فليسلم عليك وليودعكِ، قالت: فَأْذَن له إن شئت.

فأذن له فدخل وسلَّم وجلس، ثم قال: أبشري يا أمَّ المؤمنين، والله ما بينك وبين أن يذهب عنكِ كل أذى ونَصَب وَوَصَب، وتلقي الأحبة؛ محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه إلا أن تفارق الروح الجسد، قالت: إيه وأيضاً، فقال: إن كنتِ لأحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيباً.

قالت: وأيضاً، قال: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجدٌ في الأرض إلا وهو يتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ منْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور:١١] قالت: وأيضاً، قال: وسقطت قلادتك بـ الأبواء، فَاحْتبِس النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه في ابتغائها وطلبها، حتى أصبح القوم على غير ماء، فأنزل الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:٤٣] فكانت رخصة عامة للناس بسببك إلى يوم القيامة.

فوالذي لا إله إلا هو! إنك لمباركة، فأجهشت وقالت: دعني مِن هذا يـ ابن عباس! والذي لا إله إلا هو! لوددتُ أني كنت نسياً منسياً، لوددت أني كنت نسياً منسياً.

تناست كل فضائلها أمام قوة استحضار الحياة الآخرة في قلبها، وخشيتها لله تعالى، وكذلك يكون رسوخ اليقين، وقوة الإيمان برب العالمين.

وهذا ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {الغُليِّم المعلَّم}: يقول: [[والذي لا إله إلا هو! لوددت أني انقلب روثة، ثم أُدعى عبد الله روثة، وأن الله غفر لي ذنباً واحداً]].

فبادر ولا تغتر، واحمد الله؛ فله المنَّة: {لَمَغْفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:١٥٧] يا رب أنت المرجَّى، أنت العزيز القدير.

يا رب أنت المجير قد مسَّنا ما يضير

فلا تكلنا لنفسٍ فيها تمادى الغرور