[بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة]
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: والأمة تمتحن امتحانات يصنع تاريخها من خلالها، غداً يخوض أبناؤنا وإخواننا ذكوراً وإناثاً غمار الامتحانات الدراسية، وبهذه المناسبة تجد القلوب وَجِلَة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلاً لم تعلن فيه حالة الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعوالله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر.
لكن أيها الأب الحنون! وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام، فأنت به الآن مشغول، تسعى وتصول وتجول، تهتم به وترعى، وتحس أنك عنه مسئول؛ فهلا كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه، هلاَّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته في حياته.
علمك وما علمك؟!
مسئوليتك وما مسئوليتك؟!
أحاطت بعلوم الدنيا فأهملت الأخرى الباقية، شغلت به في حياته، وأهملته بعد مماته، بنيت له بيت الطين والإسمنت في دنياه، وحرمته بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في أخراه.
نظرتك وما نظرتك؟!
طموحك، أمَلُك، غاية مُنَاكَ أن يكون طبيباً أومهندساً أوطياراً أوعسكرياً.
ويا لله كل الأماني دنيوية! السعي والجد للفانية مع إهمال الباقية.
هذه ليست حالة نادرة، بل قسم من الناس على ذلك.
تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبنائهم أجساداً وعقولاً، وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أوبها يشقون.
هذا هوالواقع، والأدلة على ما نقول هاكها أيها الأب الحنون: هب أن ابنك تأخر في نومه عن وقت الامتحان، ما حالتك؟ ما شعورك؟ ألا تسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا تنام بعدها بنصف عين لئلا يفوته الامتحان؟
كأن الجواب يقول: بلى.
هل كان شعورك حين نام عن صلاة الفجر كشعورك حين نام عن امتحانه؟ ألا تسأله كل يوم عن امتحانه؟ ماذا عمل؟ وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحاً؟
فهل سألته عن أمر دينه يوماً ما؟
ألا يضيق صدرك ويعلو همُّك حين تعلم أن ابنك قصَّر في الإجابة؟ فهل ضاق صدرك حين قصَّر في سنن دينه وواجباته؟
ألا تأتيه بالمدرس الخصوصي إن لم يستطع تجاوز الامتحان، وتعطيه ما يريد؟
ألا تمنعه من الملاهي التي رحبت بها في بيتك من فيديو وتلفاز وصحف ومجلات لئلا تشغله عن المذاكرة والاستعداد للامتحان؟
فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثان، ولا إعادة، ولا حمل للمواد؟ فقط نجاح أورسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار أبد الآبدين، معناه الخسران المبين، والعذاب المهين؟
ماذا تغني عنه شهادته ومركزه وماله إذا أُوتيَ كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٨].
ما أغنى عني مركزي، ما أغنى عني سلطاني، ما أغنى عني علمي الدنيوي وشهادتي، كل ذلك هَلَك واندَثَر: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:٢٩ - ٣١].
خسارة ورسوب، وأي خسارة وأي رسوب؟
تكون في الدنيا طبيباً أومهندِساً أورسَّاماً أومُدرِّساً، أما الآخرة فمؤمن وكافر، فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
لا نقول: اهملوا أبناءكم، ولا نقول: دعوهم، لا والله، بل نقول: إن الآخرة هي أولى بالاهتمام، وأجدر بالسعي، وأحق بالعمل.