[من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه]
ومن وسائل كشف الكربة: أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:٢٢ - ٢٣] إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاء وتبديداً لجميع الكرب والأدواء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:٣٧].
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعُوَّد
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المُصاب؛ فها هي إحدى المكروبات المصابات تقول -عند مصيبتها بأحد أبنائها-: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
فما أبرم الله لم ينتقض وما نقض الله لم يبرم
ومات ولد لـ أنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: [[الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله]] ولسان حاله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:٧٠].
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: [[إنك امرؤ لا يبقى لك ولد.
فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وتموت ابنة لـ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: [[الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله]] ثم ركب، ومضى في رعاية الله.
والله يفعل ما يشاء فَكِلِ الأمور إلى القضاء
ومات لـ عبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر -كما تعلمون- مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم.
يمضى الصغير إذا انقضت أيامه إثر الكبير ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وفي سلوة الحزين: يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ! إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيّاً عمَّا في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرمِلون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون.
اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك.
ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكريم فإن ذلك أسلم
وإذا ابُتليت بكربة فالْبسْ لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم
لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعد ما دفنه قائلاً: كل ذلك في كتاب، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه.
اللهم فحقِّقْ رجائي فيه، وآمِنْ خوفي عليه.
حاله:
أبكيه ثم أقول معتذرا له وُفِّقْتَ حين تركت أَلأَمَ دارِ
جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه شتان بين جواره وجوارِي
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحارِ
دُرَّتْ عليك من الغمام مراضع وتكنَّفتْك من النجوم جَوارِي
فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلِّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار.
ما قد قُضى يا نفسي فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدر
ثم اعلمي أن المقدَّر كائن حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري