[صور لمن ذاقوا بلسم الحياة]
أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب سلا صاحبه عن الأبناء والنساء والإخوان والأموال والمساكن والمراكب والمناكح والأوطان، ثم رضي بتركها كلها والخروج منها رأساً وهو وادع النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، لعلمه أن الجنة حُفَّت بالمكاره، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه في سبيل الله، أو قتلهم إن كانوا أعداء الله.
فلم يكن في سبيل الله تأخذه ملامة الناس والرحمن مولاه
فإذا بأحدهم يتلقى سنان الرمح بظهره فيخرج من بين ثدييه، والدماء تثعب منه، فينضح من هذه الدماء على وجهه وجسده، ويقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]]، حتى قال قاتله: فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قتلت الرجل؟ فما زال يسأل حتى أُخبر أنه فاز بالشهادة وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال قاتله: فاز لعمر الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إن بعض النفوس، تظل في شك من مصداقية هذا الدين، حتى ترى قسمات الفرح بادية على وجوه أفراده بشراً وسروراً وسكينةً واطمئناناً، وهم يواجهون الموت في سبيله!
لنقاءٍ ونماء ولإيمان وثيق قتلهم في الله أشهى من رحيق
فازوا من الدنيا بمجد خالد ولهم خلود الفوز يوم الموعد
ويستطيل الآخر حياته، فيلقى قوت يومه من تمرات يوم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قوموا إلى جنة عرضها الأرض والسماوات} يقول: [[لئن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة!]] ثم يتقدم للموت فرحاً مسروراً.
آية المؤمن أن يلقى الردى بَاسِم الثغر سروراً ورضا
ليس يدنو الخوف منه أبداً ليس غير الله يخشى أحداً
ويلبس بلال رضي الله عنه أدرع الحديد، ويصهر في الشمس يئن تحت وطأة صخرة عظيمة، فوق رمضاء قاسية في يوم قائظ في مكة -وأهل مكة أدرى بقيظ مكة - يراود على كلمة الكفر، ومن الميسور عليه أن يقولها لو أراد وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه ذاق حلاوة الإيمان، فمزجها بمرارة العذاب والحرمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأطلقها كلمات تتقطع لها قلوب معذبيه حنقاً وغيظاً؛ ليرغم أنوفهم بها قائلاً: [[أحد أحد، لو وجدت أحنق منها وأغْيَظ لكم منها لقلتها]].
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وثبت فكانت العاقبة، فإذا به يعلو الكعبة فيصدح بالأذان ليرغم به من المشركين القلوب والآذان، حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قامت زوجه تقول: وا بلالاه! وا حزناه! فيقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[بل وافرحاه! واطرباه!]]
غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه.
أرسلتها كلمات منك صادقة بيضاء آذانها الأخلاد والقلل
بريقها وهي تهوي في مسامعهم بلاغة خشيت لألاءها المُقَل
وإذا بسيف الله خالد أبي سليمان فارس الإسلام وليث المَشَاهد رضى الله عنه يقول حين ذاق بلسم الحياة وخالطت بشاشته قلبه: [[والله! ما ليلة تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشَّر فيها بغلام، بأحب من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أنتظر فيها الصبح لأغير على أعداء الله]].
كأنما الموت في أفواههم عسل من ريق نحل الشَّفا حدث ولا حرجا
حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قال: [[لقد طلبت القتل مظانّه، فلم يقدر لي أن أموت إلا على فراشي، ولا والله الذي لا إله إلا هو ما عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على أعداء الله، لقد شهدت كذا وكذا مشهداً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء، عدتي وعتادي في سبيل الله]] ثم لقي الله رضى الله عنه وأرضاه.
الدم الزاكي جرى في عرقهم فاض مسكاً وتندى عنبراً
فاسألوا عن كل نصرٍ خالداً واسألوا عن كل عدلٍ عمرَ
وإذا بـ ابن تيمية رحمه الله يدخل سجن القلعة ويغلق عليه الباب، فيبرز بلسم الحياة في تلك اللحظة -أعني الإيمان- فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣].
ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رُحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان.
المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، والله لو بذلت ملء القلعة ذهباً ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، حاله:
أنا لست إلا مؤمناً بالله في سري وجهري
أنا نبضة في صدر هذا الكون فهل يضيق صدري
يقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: وعلم الله! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والتنعم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، ومع ذلك فهو من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
رجحوا حلماً وخفوا همماً ونشوا سِيداً وشبوا عُلَما
علموا من أين ينزاح الشقا فأزاحوه وعاشوا سعدا
إنه بلسم الحياة.
وإذا بآخر يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه، فما يزيد على أن يَفتَّرَ عن ابتسامة من ثغره نابعة من صدر مطمئن هادئ، يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه ذلك القتل فَيفتَّر ثغره عن ابتسامة نابعة من صدر مطمئن هادئ، واثق بموعود الله كما يُحكى، فيقال له: ما تنتظر؟ قال: أنتظر القدوم على ربي، لقد عملت لهذا المصرع خمسة عشر عاماً، وإني لأرجو الله أن تكون شهادة في سبيله.
فوالله إني أرى مصرعي ولكن أرغدُّ إليه الخطا
وتالله هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا
وآخر كان يعيش حياة الضياع والحرمان والتعاسة وعدم المبالاة، فيمر على مسجد بعد صلاة المغرب، وإذا بالمتكلم يتكلم فيه حول قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨] فألقى سمعه وقلبه، وصار في حالة من الذهول، سمع مصيره ومآله -ولا عدة له- تذكر أيامه السوداء البائسة، ووقوفه بين يدَيْ ربه لا تخفى على الله منه خافية، استفاق قلبه، استيقظ إيمانه، تغلغلت الموعظة إلى سويداء قلبه، اندفع يبكي وينتحب، ويقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله، غفرانك يا رب، رحمتك يا أرحم الراحمين!
بادر واغتسل وصلّى صلاة المغرب، وذهب إلى هذا الداعية المتكلم، فقصَّ عليه قصته، وأوصاه الداعية بوصايا، وسأل الله له الثبات، أقبل على تنفيذ هذه الوصايا إقبال الظامئ على الماء البارد في يوم قائظ.
يقول هذا التائب -وقد ذاق ذلكم البلسم-: والذي لا إله إلا هو ما نمت تلك الليلة من فرحي بالهداية والإقبال على الله، وتالله لقد حفظت القرآن في أربعة أشهر عن ظهر قلب، صلح حالي، وانشرح بالي، وذهبت غمومي وهمومي، تراه طلق المُحيَّا، بشوشاً يختم القرآن في كل ثلاث، وصدق الله جل وعلا يوم قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٢].
سعادة الدين والدنيا مقيدة بمنهج الله فهو الشرط والسبب
وإذا بالآخر يقول مع فقره وحاجته: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وإذا بالأعرج يوم أحد كما في المسند بسند حسن يقول: {يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
تقول زوجته: لكأني أنظر إليه وقد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً -وقاتل حتى قتل- فمر عليه صلى الله عليه وسلم فقال: لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة} إيهٍ إيهٍ!!
ليرفعها من حضيض التراب إلى الأفق الأرحب الأكرم
وإذا بالآخر في القادسية يبارز مجوسياً، فيقتل المجوسي ويعينه الله -عز وجل- عليه، لكنه رحمه الله يصاب في بطنه، فتنتثر أمعاؤه، ويمر به رجل من المسلمين فيقول: أعنِّي على بطني، فأدخل له أمعاءه في بطنه، ثم أخذ بصفاق بطنه يزحف نحو أعداء الله على هذه الحال، فيدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه، وهو يقول:
أرجو بها من ربنا ثوابا قد كنت ممن أحسن الضرابا
ثم فاضت نفسه رحمه الله.
يعانقون ظباها وهي هاوية كأنما الطعن في لبَّاتهم قُبَلُ
إنه الإيمان بلسم الحياة.
وإذا بالزوج يتوعد زوجته حين غضب عليها، فيقول: والله لأشقينك ولأتعسنك.
فتقول حين خالط الإيمان بشاشة قلبها في هدوء: والله لا تستطيع أن تشقيني كما أنك لا تملك أن تسعدني، لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو في زينة وحلي لحرمتنيها، لكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون.
قال: وما هو؟
قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي وعملي، وقلبي في يدي ربي؛ لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربي.
هات ما عندك هات معي الإيمان يهديني في بحر الظلمات
بلسم الإيمان ينجي مركبي والموج عاتي
هل ترى الإعصار يوماً هزَّ شُمّاً راسيات
كلاَّ.
وإذا بالآخر يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.
قيل له: وما أطيب ما فيها؟! قال: محبة الله، ومعرفته وذكره، والله الذي لا إله إلا هو لأهل الليل في ليلهم مع الله ألذُّ من أهل اللهو في لهوِهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم، إنهم لفي عيش طيب.