[بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر]
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه.
رضي فرضي الله عنه وسعد في حياته وأخراه واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.
في الموقف العظيم يوم يقول الله -والناس في عرصات القيامة- لأناس من بين الخلائق جميعهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: ياربنا ويامولانا! قد حاسبت الناس وتركتنا؟ فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة.
فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: {ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ويا له من جزاء! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وفي الصحيح أن الله عز وجل -كما في الحديث القدسي- يقول لملائكته: {قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم ثمرة فؤاده؟ -وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة: نعم.
فيقول: وماذا قال؟ -وهو أعلم جل وعلا- قالوا: حمدك واسترجع.
فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد} {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء
مروا بـ يزيد بن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي: ما فعلت العينان الجميلتان يا بن هارون؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وإني لأحتسبهما عند الله الواحد الغفار.
فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر، وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضا، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته:
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
{فاحرص على ما ينفعك -وارض بما قسم الله لك- واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل}.
ولست بمدرك ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو أني
علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً:
حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
إن زرعت خيراً حصدت خيراً وإن زرعت شراً حصدت مثله
وإن لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذر
ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة براً، وذهب وتركه وكان هذا العبد لبيباً عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيراً بدل البر، ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيراً، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك ازرعها براً لم زرعتها شعيراً؟! قال: رجوت من الشعير أن ينتج براً.
قال: يا أحمق! أو ترجو من الشعير أن ينتج براً؟! قال: يا سيدي! أفتعصي الله وترجو رحمته؟! أفتعصي الله وترجو جنته؟! فذعر وخاف واندهش وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله وأبت إلى الله، أنت حر لوجه الله.
كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:٩٧].
ها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتياً وقد قام على خدمته زمناً طويلاً ثم مله وسئمه، فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة وخرج به إلى الصحراء، ويوم وصل إلى الصحراء قال الأب لابنه: يا بني! ماذا تريد مني هنا.
قال: أريد أن أذبحك.
لا إله إلا الله! ابن يذبح أباه! قال: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟! قال: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، قال: إن كان ولابد يا بني فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال: أبتاه! ما ضرك أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك؟! قال: إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً.