[دفن عمر جوار رسول الله]
يحدث الإمام البخاري عن عمرو بن ميمون أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا عبد الله بن عمر انطلق إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلم عبد الله على عائشة واستأذن ودخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فجهشت بالبكاء، وقالت: كنت أريد ذلك المكان لنفسي، ولأوثرنَّ به عمر اليوم على نفسي، ورجع عبد الله، فلما أقبل على عمر قيل له: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني.
فأسنده رجل إليه فقال لـ عبد الله ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! قد أذنت لك، وتهلل وجهه، لسان حاله: وافرحاه واطرباه:
الآن ألقى الأحبَّة محمدًا وحزبه
أما لسان مقاله: فالحمد لله ما كان من شيء أهم إليّ من ذلك المضجع.
ثم قال: يا عبد الله! إذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّم على عائشة أخرى وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن لم تأذن فردني إلى مقابر المسلمين.
وأسلم عمر الروح إلى بارئها.
وحمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، فما أصابهم حزن مثل حزنهم إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
ودفن حيث أكرمه الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي وأضع ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله! ما دخلته إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر]].
فإلى السَّافرات، إلى الكاسيات العاريات نهدي هذا الكلام.
دفن عمر ولم تدفن سيرته ولا أعماله، وإنما هي باقية بقاء هذا الدين لكل مقتد من المسلمين:
فلقاه ربي في الجنان تحية ومن كسوة الفردوس ما لم يمزق
نِلْتَ الشهادة فاهنأ أيها العمر بمثل عدلك تبنى مجدها الدول
أمامك الجنة الخضراء فاهنأ بها لا يُرْتَجَى العمر يومًا إن دنا الأجل
انْعَم بخلدك في أبهائها فرحاً إنَّ الخلود جزاء أيها البطل
فالآن تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر
فسقى رفاتك وَابِلٌ من ماء غيث مُنْهَمِر
رحم الله عمر، وجمعنا به في دار كرامته؛ فقد عظم شخصه، وقوي خطره على أعداء الدين، كان شديدًا في سبيل إعزاز ورفعة العقيدة والدين، وفي ذات الوقت كان رقيق المشاعر، مرهف الحواس، تُشْجِيه أنَّات طفل صغير، أو نَشِيج فقير بائس، أو زفرات مهموم مغموم مكروب.
لقد كان بدرًا يستضاء بنوره فأضحى رهينًا في المقابر ثاويا
تغمده الرب الكريم بفضله ولا زال هَطَّال من العفو هاميا
على قبره يهمي عشياً وبكرة وبوَّأه قصراً من الخلد عاليا