للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة للاعتبار بين الحقيقة والخيال]

ماذا كان العرب قبل الهداية إلى منهج الله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قد كانوا حفاةً عراةً رعاءً، لا شأن لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء، يتقلبون من شدق الأفعى إلى ناب الأفعوان، حتى إن سابور أحد قادة الفرس كان يقوم بتعذيب الأسرى عن طريق نزع أكتافهم، فنزع أكتاف خمسين ألفاً من تميم وبكرٍ وغيرهم، حتى قالت عجوزٌ عربية وهي ترى ذلك المنظر: إن لهذا قصاصاً ولو بعد حين.

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:٥] * {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٦] ورفع الله شأن الأمة المهتدية حقاً ببعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا بثلةٍ من مهتديها حقاً يقفون أمام يزدجر يدعونه لخيري الدنيا والآخرة الإسلام، وإلا فالجزية، وإلا فالقتال، فيقول وهو يعرف سابق العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول -وصدق وهو كذوب-: والله ما أعلم قوماً أشقى منكم، ولا أسوأ ذات بينٍ، ولا أقل عدداً منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي، فلا تقومون لهم، فإن كثر عددكم فلا يغرنكم، وإن كان إنما هو الجوع والفقر، فرضنا لكم طعاماً وكسوةً وملكنا عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم.

فقال المغيرة رضي الله عنه: دعوني أرد عليه، قالوا: كفءٌ كريم، قال: اختر ولا تكثر، تسلم فتنجو ومن معك، أو الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.

إن كنت من ريح فيا ريح اسكني أو كنت من لهبٍ فيا لهب اخمدي

قال: أتستقبلني بمثل هذا أيها العبد! قال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك ما استقبلته، قال: أما إنه لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا حاجة لكم عندي، ارجعوا ليس لكم إلا رستم يدفنكم غداً في خنادق القادسية، قالوا: ستعلم ونعلم.

ورجعوا وقد دخل الرعب إلى أعماق قلبه، رأى قوماً صيغوا بالهداية الحقة صياغةً جديدة، فليسوا بالعرب الذين يعرفهم من قبل، وطلب من قائدٍ من قادته أن يكر على المسلمين كرة على غرة ليأسر أضعف المسلمين، ليرى هل هم جميعاً على هذا المستوى، فكروا، ورجع المسلمون متحرفين لقتال، فلحقوا بأضعفهم فاختطفوه أسيراً، وعادوا به لقائدهم، فقال له: ما جاء بكم؟ وماذا تطلبون؟ فقال أضعف المسلمين: جئنا نطلب موعود الله.

قال: وما موعود الله؟ قال: أرضكم ودياركم وأبناؤكم ونساؤكم إلا أن تسلموا، أو تسلِّموا، قال: فإن قتلناكم قبل ذلك؟ قال: موعود الله لمن قتل الجنة، ولمن بقي أرضكم ودياركم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، إنا لعلى يقين!

قال: إذاً وضعنا الله بين أيديكم؟! قال: ويحك، بل أعمالكم وضعتكم، وبها الله أسلمكم، لا يغرنك من حولك، إنك لست تحارب الإنس، إنما تحارب قضاء الله وقدره، ونحن قضاء الله وقدره.

إني وإن كان ردائي خَلِقا قد جعل الله لساني مطلقا

فاستشاط غضباً، وأمر بقتله، فقتل رحمه الله، وبدأ الاستعداد، وقربت ساعة الصفر، وأسرجوا لـ رستم فرساً، وقد كان محارباً بارعاً، وخبيراً عسكرياً مجرباً، فقفز قفزةً واحدةً ليستوي على ظهر جواده دون أن يمس الركاب، ثم قال لجنده عن المسلمين: غداً ندقهم، فقال له رجلٌ: إن شاء الله، فرد عليه في كبرياء مقيتةٍ ومجوسيةٍ بغيضةٍ: وإن لم يشأ، إنما ضغا الثعلب حين مات الأسد، يعني: كسرى، وأخشى أن تكون سنة القرود.

له الويل، وبفيه الحجر:

فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها

وطلع النهار، وبدأت المعركة، ووصلت وحدةٌ من جيش الإسلام إلى حيث يوجد رستم، عثرت على سريره ولم يعثروا عليه فوقه، إذ كان بجوار بغلٍ محملٍ بعدلين من مسك، يستظل بالظل ويشم الرائحة، ويدير المعركة، واقترب رجلٌ من المسلمين من بني تيم؛ هلال التيمي، وهو لا يعلم بوجود رستم، فضرب الحبال التي تشد العدلين إلى ظهر البغل فقطعها، فوقع أحد العدلين على ظهر رستم، وكان ثقيلاً جداً، فأصابه إصابةً بالغة أثرت في فقرةٍ من فقار ظهر رستم، ثم ضرب هلال العدل، يريد أن يعرف ماذا يحوي هذا العدل، فضربه بالسيف، فانبعثت رائحة المسك، فعرف أنه رستم، تسلل رستم هارباً نحو النهر، وعرفه هلال وتوجه نحوه، ورماه رستم بسهمٍ فأصابه في قدمه، وهو يقول له بالفارسية: كما أنت، وأوغل في الهرب وهلال خلفه نحو النهر، ولما رأى أن هلالاً سيدركه، بدأ يتخفف من سلاحه وعدته، فرمى بدرعه، ثم رمى بسيفه، ثم قذف بنفسه في النهر، فلم يدع له هلال فرصة النجاة، إذ اقتحم النهر خلفه، وهو يعوم في الماء لم يشعر إلا وهلال يأخذ برجله يجذبه ويسحبه حتى خرج به إلى البر، ثم ضرب جبينه بالسيف ففلق هامته، وضرب أنفه، وحاله:

الآن أدقك يا من كان يتبجح بالأمس بغداً ندقهم.

لله دره! وبوركت يمينك، أي هلال ما أثبتك!

من ذا يجاريك وأنت السيل والسيل فيه غرقٌ وويل

والأرض أحوج لدرء العيش منها إلى جلب الحيا والغيث

فسحب جثته حتى رمى بها بين أرجل البغال، ثم صعد على سرير رستم، ونادى بأعلى صوته: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ معشر المسلمين إليَّ، فأطافوا به، ورأوا مصرعه، فكبروا من فوق سريره، وتهدم قلب جيش الفرس، وعمتهم الهزيمة، وبقوا بدون قائد ينظم انسحابهم، فصار همهم النجاة بأنفسهم، ركبهم الذل والهوان، حتى إن الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم، فيأتي حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه المسلم بسلاحه، ويأمر أحدهم بقتل صاحبه، فيفعل كما روى الطبري رحمه الله، ومنهم ثلاثون ألفاً من مغاوريهم -وما فيهم مغوار- قد وطنوا أنفسهم على الموت، فاقترنوا بالسلاسل، وعندما رأوا الهزيمة، تهافتوا في النهر يجر بعضهم بعضاً كالحمر لاقت قسورة، فما أفلت منهم مخبر، ولم تسمع لهم ركزا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٧ - ٩].

من حاد عن هدي الإله تعنتاً يتبدل الأدنى ويلق الأحقرا

والله الذي لا إله إلا هو ما من مرة سارت فيها هذه الأمة على هداية الله على الحقيقة؛ ليكون الدين كله لله، إلا تحقق لها وعد الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:٤٠] إذا كانت الهداية لمنهج الله سبب استخلاف وتمكين جيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فهي كذلك سببٌ استخلاف وتمكين الطائفة التي هي على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، يقول صاحب مدارج العبودية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصف الجيل المؤمن المنتظر وهو يستأصل شأفة اليهود المغضوب عليهم، أحفاد القردة والخنازير، وقتلة الأنبياء؛ لينقذ البلاد والعباد من مكرهم وخبثهم، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهوديٌ خلفي تعال فاقتله}.

إن الشجر والحجر لينادي ذلك الجيل: يا مسلم يا عبد الله! وأنا أناديك: يا مسلم يا عبد الله! حقق العبودية لله، وأقم منهج الله يكن لك التمكين والاستخلاف، وعد الله قائم، وشرط الله معروف، من أراد الوعد فليقم الشرط، ومن وفى وفّي له: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١] ولكنكم تستعجلون.

إن هذا لا يعني -يا معشر المسلمين- أن نبقى دون إعدادٍ وتربية؛ منتظرين ظهور المهدي ونزول عيسى عليه السلام، واليهود يعيشون في أرض المسلمين ينقصونها من أطرافها، ولا يعني أن يستعجل المسلمون موهنين الإعداد والتربية الإيمانية القائمة على تحقيق العبودية، فيؤتى على غراس الإسلام فيستأصل قبل أن يبلغ السعي، بل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} [الأنفال:٦٠] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].