[علامات الإخلاص]
ثم اعلم -يا أخي الحبيب- أن للإخلاص علامات اعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك وجاهدها وهي على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همّاً واحداً، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أشهد الله أني أمقتك على ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمت من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب.
ثانياً: نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم هماً واحداً؛، هل تُقُبِّل هذا العمل أم لم يتقبل، و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧].
ثالثاً: الحب في الله: حباً يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:١٤٣].
رابعاً: إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفاً من دواعي السُّمْعَة والرياء [[فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل]].
لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل، ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:١٦] فما جزاؤهم؟ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].
يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفاً من دواعي السمعة والرياء.
يصوم أحدهم يوماً، ويفطر يوماً لمدة أربعين سنة لا يعلم أهله به، كان حمَّالاً -يعمل حمالاً- يحمل غداءه معه في الصباح، فيتصدق به في الطريق على أحد المساكين، ويرجع في المساء ليتعشى مع أهله؛ فذاك إفطاره وهو عشاؤهم.
بل إن ابن المبارك عليه رحمة الله كان يجاهد في سبيل الله، وكان يضع اللثام على وجهه لئلا يُعرف خوفاً على نيته أن يشوبها شائب من الشوائب.
هل عاش أولئك يوماً من الدهر على وجه الأرض.
إي والله اللهم إنا نشهدك أنَّا نحبهم، اللهم احشرنا وإياهم في زمرة الصالحين.
إيمانهم بالله لا يتزعزع وضميرهم في الله لا يتزلزل
قد أرخصوا في الله كل عزيزة ثم استقلُّوا فيه كل مُذلِّل
ليست مبادؤهم حديث مُنمِّق زيف اللسان ولا كلام مجمِّلِ
صارت مبادؤهم وصارت خلفها أفعالهم في موكب متمثِّل
حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا في حملهن على الرماح الدُّبَّل
الموت للجبناء منحدر وللهمم الصعود شتان ما بين الثعالب في المعامع والأسود