للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة عزوف الصحابة الأعلام عن الدنيا]

لما أدرك الصحب الكرام الأعلام أن النعيم لا يدرك بالنعيم؛ استعلوا على جواذب الأرض، فعزوا وبزوا، كالمصابيح ما على أحدها أن يتألق بنور غيره ما دام في كل مصباحٍ زيته، نُصروا بالرعب، وجاوزا الشهب، وإذا بهم يقفون على أعتاب مملكة فارس أمام رستم قائد الفرس في عزة الإسلام، يعرضون عليه الإسلام أو الجزية أو القتال، وهو يعرفهم قبل الإسلام بأنهم أقل عدداً، وأسوء ذات بين، وأشقى هم أحدهم ما يأكله، لا قيمة ولا وزن ولا معنى ولا مبنى.

قال رستم في كبرياء وصلفٍ وغرورٍ للمغيرة: "لقد كنتم إذا قحطت بلادكم استغثتم بناحيتنا، فأمرنا لكم بشيء من التمر والشعير ورددناكم، حتى إذا ما طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، واستظللتم بظلالنا، دعوتم أصحابكم وأتيتم! ما حالنا وحالكم إلا كرجلٍ له حائط عنبٍ فيه جحر، فجاء ثعلب فدخل من هذا الجحر ليأكل من العنب، فقال صاحب الحائط: وما ثعلب واحد.

دعوه يأكل، فخرج الثعلب فدعا الثعالب جميعاً، فأتت ودخلت من مدخله، حتى إذا صارت كلها في الحائط سد عليها الجحر، ثم قتلها جميعاً، أو إنما مثلكم أيضاً كذباب رأى العسل، فقال: من يوصلني إليه وله درهمان، فلما وصل إليه سقط فيه، وجعل يطلب الخلاص والنجاة، ويقول: من يخلصني وله أربعة دراهم، نعلم أنه ما أخرجكم إلا الجوع، فارجعوا ونفرض لكلٍّ منكم كسوةً وطعاماً، ونملك عليكم من يرفق بكم، إنا لا نشتهي قتلكم ولا أسركم".

فقال المغيرة في عزة المؤمن: [[لا والذي لا إله إلا هو ما هذا الذي أخرجنا، ولكن الله رزقنا على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم حبةً تنبت في أرضكم، فلما ذاقها عيالُنا، قالوا: لا صبر لنا عنها، أنزلونا أرضها لنأكل منها، فجئنا -والله الذي لا إله إلا هو- لنطعمها أو نموت دونها، أفبعد أن أوهنا ملككم، وأضعفنا عزمكم نرجع عنكم، لا والله حتى تعطوا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون، أو تُسلموا وتَسلموا]] حاله:

فاكفف ودع عنك الإطالة واقتصر وإذا استطعت اليوم شيئاً فافعلِ

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

فاستشاط غضباً في رعبٍ، وقال: "والشمس لأقتلنكم غدا" قال المغيرة: [[ستعلم ونعلم]] فقال: "لا صلح بيننا وبينكم" ويدب الرعب في قلب هذا الكافر، وإذا به بعد ليالٍ يتخفف مما عليه من السلاح أمام جند الإسلام الذين طمعوا في نعيم الآخرة، فيرمي بدرعه ورمحه وسيفه، ثم يرمي بنفسه في النهر، ويسحب من النهر لتفلق هامته بالسيف، ثم يرمى تحت أقدام خيل المسلمين لتدوسه بأرجلها، والمكبر يكبر: الله أكبر الله أكبر!

على ترانيم تكبيراتنا سقطت رايات كسرى وذاق الموت ساسان

عافوا المذلة في الدنيا فعندهم عزُّ الحياة وعز الموت سيان

لا يصبرون على ضيمٍ يحاوله باغٍ من الإنس أو طاغٍ من الجان