[مواقف من الإخلاص]
صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم من الله، وأنعم به من تطلع لا يعدله شيء من تكريم الدنيا.
صح أن أعرابياً قسم له النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر من الغنيمة وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قُسِم له، فجاء الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأدخل الجنة -وأشار إلى حلقه- فقال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا لقتال العدو، وكان له ما أراد، إذ أتي به يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه الله، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه، ودعا له، ثم قال: اللهم هذا عبدك، خرج مجاهداً في سبيلك؛ فقتل شهيداً وأنا عليه شهيد}.
أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال قائلهم؛ وهو جابر بن عبد الله: [[والذي لا إله إلا هو! ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة]].
وهاهو أبو الحسن علي رضي الله عنه يوم الخندق يرى عمرو بن ود -فارس العرب بلا منازع- وهو يجتاز الخندق ويندب المسلمين للمبارزة، فيتقدم علي لمبارزته، فيندب الثانية وقد استصغر علياً فيخرج له علي فيندب الثالثة للمبارزة، فما لها إلا علي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روي عنه-: {أخرج إليه منصوراً}، فكان اللقاء، وما هو إلا قليل حتى قتله علي رضي الله عنه.
فأين تربَّى علي؟
تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب الإخلاص والتجرد والصدق.
والأمرُ من معدنِهِ لا يُستغربُ والفرعُ للأصلِ حتماً يُنسبُ
صدقوا ما عاهدوا: فاتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو؛ ركلوا العُجْب والكبر والغرور، فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء في حبور.
يقال لأحدهم: يا مراءٍ!
فيقول: متى عرفت اسمي؟
وآخر في الحج وقد ازدحم الحُجَّاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء.
فيقول: ما عرفني إلا أنت.
ويؤتى بالثالث ويقف يوم عرفة آخر النهار متذللاً خاضعاً خاشعاً، قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -وهي من ذنوب وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله! ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي، اللهم لا تردهم من أجلي.
ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطْلقهُمْ مِنْ عِقَالٍ وبقيناً أُسَرَاءْ
ما لنا نحنُ عَجِبنَا واغْتَرَرْنَا أوَ لسْنَا كُلُنَا طيناً ومَاء
لو تبعنا في الهدى آثارهم لانطلقنا وسمونا للعلاء