للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[زيد بن عمرو بن نفيل وطلب الهداية]

وفي القدسي: {يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} يمين الله ملأى سحاء لا يغيضها شيء.

سبحانه وسعت آثار رحمته أهل الأراضي وسكان السماوات

فمن استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في صحيح البخاري: [[إن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: إن زيداً هذا خرج إلى الشام يسأل عن الدين -يبحث عن الهداية في وقت فترةٍ من الرسل- من الشام إلى الموصل إلى الجزيرة، فلقي عالماً من علماء اليهود، فسأله عن دينه، فقال: لعلي أن أدين بدينكم، فأخبرني، فقال اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله!

قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداًَ، وأنَّى أستطيعه؟! فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال زيد: وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فخرج زيد، فلقي عالماً من علماء النصارى، فقال مثله: أخبرني عن دينكم لعلي أن أدين به.

فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.

قال: ما أفرُّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنًّى أستطيع؛ فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.

فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج وبرز، ورفع يديه لمولاه، وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم]].

عبد الله! أن يتجه العبد إلى الله وحده دون سواه؛ طلبةٌ عزيزة منيعةٌ تحتاج إلى اصطبار، وطريقٌ يحتاج إلى مجاهدة ليخلص القلب من اتباع الهوى إلى حب مولاه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] تتلوها لذةٌ لا يعرفها إلا من ذاق طعمها وعرف حلاوتها، لكنها تبقى عزيزةً إلا بمشقة، فإذا تجاوزت تلك المشقة، منحتك عطرها، فتنسمت عرفها وريحها وكنت من أهلها، وإلا:

فما أنت من أرض الحجون ولا الصفا ولا لك حظ الشرب من ماء زمزم

{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم: ٦٥] فكان زيدٌ وقد ذاق حلاوة الهداية يقول فيما روي عنه: لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، لبيك حقاً حقا تعبداً ورقاً، ثم يخر لله ساجداً، ويقول: والله لو أعلم أحب الوجوه إليك، لعبدتك به، ثم يخرُّ ساجداً على الأرض، تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: [[رأيت زيداً قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش! والله ما منكم على دين إبراهيم أحدٌ غيري]] وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يئد ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤنتها، وحاله:

فإن أك مشغولاً بشيءٍ فلا أكن بغير الذي يرضى به الله أشغلُ

رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدرك بعثته، وكان يتلمس خروجه ليؤمن به ويتبعه، وقد آمن ومات قبل ذلك، وكان يقول رحمه الله فيما يقول:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا

دحاها فلما استوت شدها سواءً وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالا

سأل سعيد -ابنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال صلى الله عليه وسلم -واسمع إلى ما قال- قال: {رحمه الله، لقد مات على دين إبراهيم، ولقد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً، يبعث يوم القيامة أمةً وحده، فيما بيني وبين عيسى عليه السلام}.

فاهنأ بمنزلك الجميل ونم به في غبطةٍ وانعم بخير جوارِ

رضي الله عن الرجل، بل عن الرجال، بل عن الأمة زيد بن عمرو، استهدى الله فهداه، ودعاه فأجابه سبحانه.

سبحان من لا يشبه الأناما وعزَّ رب العرش أن يناما

وكل خلقه له فقيرُ وكل أمرٍ شاءه يسيرُ

يهدي الذي يشاء ذاك فضلُ ويبتلي البعض وذاك عدلُ

ولا يرد ما به الله قضى وكل أمرٍ في الكتاب قد مضى