للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[طعامه عليه الصلاة والسلام]

عرضت عليه صلوات الله وسلامه عليه مفاتيح كنوز الدنيا، فلم يردها ولم يخترها، بل اختار التقلل منها، والصبر على شدة العيش بها، وقالها صريحة مدوية: {بل أجوع يوماً وأشبع يوماً}

لا يبتغي الدنيا ولا أحسابها ولربه في كل أمرٍ قد رغب

عرضت عليه عروشها فأذلها بإبائه وأبى الزعامة والذهب

وإذا أتاه المال جاد به كما صبَّت حمولتها فأفرغت السحب

وروى البخاري في صحيحه رحمه الله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لـ عروة: [[يا بن أختي! إن كنا لننتظر الهلال ثم الهلال ثم الهلال؛ ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال عروة: أي أماه! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح وكانوا يهدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسقينا]].

هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها السامعون!

بيت من الطين بالقرآن يعمره وهو الإمام لأهل الفضل كلهم

طعامه التمر والخبز الشعير وما عيناه تعدو إلى اللذات والنعم

وروى الترمذي بإسنادٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يومٍ وليلة ما لي ولـ بلال طعامٍ يأكله ذو كبدٍ إلا شيء يواريه إبط بلال} يقول الترمذي رحمه الله: "ذاك حين خرج النبي صلى الله عليه سلم هارباً من مكة ومعه بلال إنما كان مع بلال من الطعام ما يحمل تحت إبطه " ليرفع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وترفع درجته، ويكون قدوةً لكل مصابٍ بضرٍ وبلوى صلى الله عليه وسلم.

لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم

وروى الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مثنية، فرجعت إلى منزلها، فبعثت إليَّ بفراشٍ حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قلت: فلانة الأنصارية؛ دخلت عليَّ فرأت فراشك فبعثت إليَّ بهذا، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه، قالت عائشة: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، فقال صلى الله عليه وسلم: رديه رديه! والذي لا إله إلا هو لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة، اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتا} يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيامٍ تباعاً من خبز حنطةٍ حتى فارق الدنيا]].

ويقول أنس رضي الله عنه: [[ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرقعاً أو مرققا، ولا شاةً سميطاً مشويةً قط حتى لحق بربه، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير؛ يبيت الليالي المتتابعات وأهله لا يجدون عشاء]].

باعوا الذي يفني من الخزف الـ خسيس بدائمٍ من خالص العقيان

تقول عائشة رضي الله عنها: [[والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبض، يقول عروة رحمه الله: فكيف كنتم تأكلون الشعير أي أماه؟! قالت: كنا نقول: أف، أي: ننفخه فيطير ما طار من نخالته ونعجن الباقي]] وهم خير القاصي والداني، ولا ضير:

الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي

وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: {لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى من شدة الجوع ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه}.

يبيت والجوع يلقى فيه بغيته إن بات أعداؤه بطنى من التخم

ما أمسى عند آل محمدٍ صاع بر، ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة في تسع أبيات.

أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو الجهد والجوع كما في البخاري، فبعث إلى نسائه جميعاً، فقلن: {والله ما معنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: من يضم، أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله} خرج وهو لا يعلم هل يجد لضيفه طعاماً في بيته أو لا يجد؛ كان يرجو رضا الله ورسوله وثواب الآخرة قطع الطريق مع ضيفه في فرحٍ وسرور قرع الباب، وسلم على أهل الدار، وقال في صوت المبشر لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، فقالت: مرحباً بضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ أكرم أضيافاً منا! والله الذي لا إله إلا هو ما معنا إلا عشاء الصبية، فاحتال الكريم -والكريم له حيل ولطائف- وقال: "هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك" إذا أرادوا العشاء، يجوع البيت كله، ويطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا عليهم لو جاعوا ليلةً وآثروا بطعامهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فكل سعيٍ سيجزي الله ساعيَه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا

هيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، وقدمت طعامها، ثم قامت كأنها تصلح السراج فأطفئته، انطفأ السراج، وبدأ الضيف يأكل في الظلام، يمد صاحب البيت يده إلى الصحفة ويرفعها وهو لا يتناول شيئاً لا يشك الضيف أنهما يأكلان أكل الضيف مطمئناً، وشبع وظن أن صاحب البيت شبع أيضاً، لكنه لم يرفع لقمة إلى فيه، وكان الظلام عوناً له على ذلك.

قام الضيف وغسل يده، وحمد الله، ودعا لمضيفه، وقام صاحب البيت فغسل يده ليريه أنه كان يأكل معه، بات الضيف شبعان ريان، وبات البيت كله طاوياً مسروراً شاكراً؛ لقيامه بما يجب نحو ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الليل عسعس، والصبح قد تنفس، وغدا صاحب البيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ذاوياً، مسروراً شاكراً، وظن أن قصة الليل سرٌ من الأسرار لا يعلمه إلا الله ثم هو مع زوجته، لكن الذي يعلم السر وأخفى قد أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحى من خبر تلك الليلة، فقال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: {لقد ضحك الله الليلة من صنيعكما، أو عجب من فعالكما، وأنزل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩]}.

معاشر المؤمنين! حينما يؤمن الإنسان إيماناً حقاً، فإن جواذب الإيمان ترفعه من الالتفات إلى الدنيا على أنها مقصدٌ وغاية، وتقصره على اعتبار أنها بلغةٌ ووسيلة كما هو حال رسوله.

فما يسبح الإنسان في لج غمرةٍ من العز إلا بعد خوض الشدائد

ويا بن الإسلام!

فما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو إن حذوت على مثال

تريد التمر دون غراس نخلٍ ولا حتى لجذع النخل هزا

إذا رمت العلا من غير بذلٍ فنم واحلم وكل لحماً وأرزا

إذا لم تكسبك التقوى ستعرى وإن حلوك ديباجاً وخزا

يدخل عمر رضي الله عنه -كما هو في الصحيح- على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عليَّةٍ قد اعتزل نساءه، مضطجعا على حصير، قد أثر الحصير في جنبه، متكئاً على وسادة من جلدٍ حشوها ليف، فلما رآه عمر لم يملك نفسه، وجثا، وهملت عيناه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {صفوة الله من خلقه وخيرته أنت فيما أرى، وفارس والروم يعبثان بالدنيا وهم لا يعبدون الله، ادع الله فليوسع على أمتك يا رسول الله! فاحمرَّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب؟ أو في هذا أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاحمد الله يا عمر، قلت: الحمد لله}.

هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للوارث الباقي

حتى نلاقي ما كل امرئ لاقي

كابد الجوع صلوات الله وسلامه عليه، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه، وجبيت له الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً ولا ديناراً، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة.

وراودته الجبال الشم من ذهبٍ عن نفسه فأراها أيما شمم