[الهمة العالية لنيل النعيم الأخروي]
الحمد لله لا يحصى له عدد ولا يحيط به الأقلام والمدد
وأحمد الله منه العون والرشد
حمداً لربي كثيراً دائماً أبداً في السر والجهر في الدارين مسترد
ملء السماوات والأرضين أجمعها وملء ما شاء بعد الواحد الصمد
ثم الصلاة على خير الأنام رسول الله أحمد مع صحبٍ به سعدوا
وأهل بيت النبي والآل قاطبةً والتابعين الألى للدين هم عضدُ
والرسل أجمعهم والتابعين لهم من دون أن يعدلوا عما إليه هدوا
أزكى صلاةٍ من التسليم دائمةً ما أن لها أبداً حدٌ ولا أمد
والله أسأل منه رحمةً وهدى فضلاً وما لي إلا الله مستند
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
أيها المؤمنون! من المشاهد المعقول الملموس المحسوس؛ بل والمنقول، أن النعيم لا يدرك بالنعيم، والنار تحرق وتنضج، وحيث يوجد النور يوجد الدخان، ولا ينال الخبز حتى يسيل العرق، ويعظم الجهد والنصب والأرق، والسم أحياناً يعمل عمل الترياق:
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
ودون الشهد إبر النحل، ومن رام اللآلئ زج بنفسه البحر، واللآلئ تحطم لترفع في التاج والنحر، وما العز إلا تحت ثوب الكد.
نعيم الأشواق بعد ذوق مُرَّ الأخطار في القفار، بقدر العنا تنال المنى، وربما تصح الأبدان بالأدواء، ولا يدرك الشرف إلا بالكلف:
ولا يفرس الليث الطلى وهو رابض
ولم يجعل التبر حلي الفتاة حتى أُهين وحتى كسر
لن يدرك البطال منازل الأبطال، وعند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال.
والسيل حرب للمكان العالي
ولا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه.
والمجد لا يشرى بقولٍ كاذبِ إن كنت تبغي المجد يوماً فانصبِ
ولذة الراحة لا تنال بالراحة، والجنة حفت بالمكاره، ولا يدرك السادة من لزم الوسادة، والموت في سبيل الله سعادة وشهادة.
جهاد المؤمنين لهم حياةٌ إلا إن الحياة هي الجهاد
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤] ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] ويورد ابن القيم -رحمه الله- حول هذه المعاني كلاماً قيماً مضمونه: "إن الخيرات واللذات والكمالات لا تنال إلا بحظٍ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسرٍ من التعب، وقد أدرك عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة، فاتته الراحة وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق والصعاب، تكون اللذة والفرح".
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه إلا وراء الهول من عبابه
من يعشق العلياء يلق عندها ما لقي المحب من أحبابه
فلا فرح لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة؛ قاده ذلك لسعادة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم إنما هو صبر ساعة.
وكلما كانت النفوس أشرف، والهمة أعلى، كان تعب ونصب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، والله المستعان! وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله.
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسرٍ من التعب