[تقديم حب الله ورضاه على كل ما عداه]
حقيقة الكلمة: إيثار رضا الله على رضا كل أحد، وإن عظمت المحن، وثقلت المُؤن، وضعف الطَّوْل والبدن.
تقديم حب الله على حب كل أحد؛ إن كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو ابناً أو مالاً سكناً: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:٢٤].
لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها، واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه، فما تلكئوا، ولا ترددوا، بل خرجوا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
تركوا الأهل والوطن، تركوا المال والولد، لم يبقَ منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف، وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين وُلدوا بـ مكة، ونشئوا بها، ومع ذا هاجروا منها؛ استجابةً لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:
مرحباً بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا
ثم مرضوا بـ المدينة، وأصابتهم الحمى، فأباحوا بأشعار وأقوال أثناء المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم، فها هي عائشة تأتي إلى أبيها أبي بكر رضيَ الله عنهما وقد أصيب بالحمَّى، يرعد كما ترعد السَّعفة في مهبِّ الريح، وتقول له: كيف تجدك يا أبي؟ فيقول:
كل امرئ مصبَّح في أهله والموت أدني من شراك نعله
فتقول عائشة: والله ما يدري أبي ما يقول.
وبلال رضي الله عنه محموم يُسائل نفسه: هل سيرى سوق مجنة ومجاز، وجبال مكة كـ شامة وطفيل، ونباتها كالإذخر والجليل، ثم يرفع عقيرته، فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدو لي شامة وطفيل
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضَّه ذلك وآلمه، إذ كان يعزّ عليه عنتهم صلوات الله وسلامه عليه فدعا ربه: {اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة} فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه.
حالهم:
اختر لنفسك منزلاً تعلو به أو مت كريماً تحت ظل القسطلِ
وإذا نبا بك منزل فتحولِ
أخيراً: هذه مشاعر مسلم حول الهجرة، هو أبو أحمد بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، يصورها مع زوجته بأسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله بهجرته، ولو كان في ذلك شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجياً ألا يخيبه الله كما يروى، فيقول:
ولما رأتني أم أحمد غادياً بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لابد فاعل فيمِّن بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها بل يثرب اليوم وجهنا وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم إلى الله يوماً وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم وناصح ونائحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن موتاً نأينا عن بلادنا ونحن نرى أن الرغائب نطلب
بهذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم، فماذا يضرهم والله مولاهم؟
حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في الجنة مولاهم، فغلَّبوا الأعلى على الأدنى، والأنفس على الأرخص، والأسمى على الأخس:
شتان بين امرئ في نفسه حرم قدس وبين امرئ في قلبه صنم
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته واقبل مقبض بابه
خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه
إنها الجنة والذي نفسي بيده! لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤساً قط، فاسمع وعِ:
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
ألا رُبَّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه اليوم مهين لها غداً، ادفعوا سيئات الأمس بحسنات اليوم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.