[علاج الخلل ومثال من الواقع]
يبقى هذا الإنسان الضعيف الهلوع الجزوع، المطماع المختال الفخور المتكبر المترف، شقياً تعيساً، سيء الحظ، عظيم البلاء، منحط الرُّتبة، بائس المصير حين يكون تفكيره بلا إيمان، ولا غرابة.
فمن يزرع الريح في أرضه فلا بد أن يحصد الزوبعة
ولا والله الذي لا إله إلا هو إنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، يقويه، يعزِّيه، يسلِّيه، يمنِّيه، يرضيه، يُحْييه حياة طيبة على الحقيقة، يعلو يقينه، ينفسح صدره، تعظم سعادته، وحين يفقد ذلك يشقى، ويضيق عليه صدره، ويأسى، ويحزن، ويكتئب؛ فيتداوى بالداء، يلجأ إلى المخدرات والانتحار، ظناً منه أنه يتخلص من الشقاء، وإنما هو في الحقيقية يتقلب في شقاء الدنيا -إن لم يعفُ الله عنه- إلى شقاء الآخرة، ومن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة إن لم يتداركه ربه برحمة منه وَمَنٍّ، نسأل الله العافية.
اسمع معي عبد الله لهذا الشاب التائب كما أورد ذلك صاحب طريق السعادة بتصرف، قال الشاب التائب:
مرَّ عشرون عاماً من عمري وأنا في ظلام دامس، أتخبط خبط عشواء، لا أحس للدنيا طعماً، مالي كثير، أخلائي كثير، في نفسي جوعة، في صدري ضيق، ماذا يشبع تلك الجوعة؟!
ماذا يشرح ذلك الضيق؟!
معازف لم تشرح صدري بل معها الجوعة ازدادت، والضيق ازداد، بَدَّلت أخلائي، بدّلت أفلامي، سافرت وعدت، سهرت كثيراً، شربت كثيراً، لهوت كثيراً، تعبت، الجوعة تزداد والضيق كذلك: {حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] أحسست كأني مسجون في دنياي، وأن الأرض برحابتها لا تسعني، فكرت طويلاً وطويلاً، وأخيراً ظهر الحل، الآن أشعر بالراحة -كما أزعم حينها- أخذت سكيناً وقلت: هذه سكيني بيدي تلمع باسمة راضية عن هذا الحل، الناس هجوع، الأهل نيام، السكون عام، أقول -في نفسي-: لم يبق سوى لحظات وأعيش ساعات الراحة كما أزعم، وفي تلك اللحظات سكيني في يدي تقترب من قلبي الميت، أريد أن أنتحر، أريد أن أتخلص من هذا الشقاء، وإذا بصوت يشق عنان السماء، يقطع الصمت، ويدوي في الكون، وترتج به المدينة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
نداء صلاة الفجر، ويْحها من قلوبٍ لا تجيبه ما أتعسها! ما أشقاها! سقطت سكيني من يدي عند سماع الصوت، وسرى في جسدي ما قد سرى، تحرك قلبي الميت على ذلك الصوت، استيقظت بعد طول سبات، ويح نفسي ماذا جدّ؟ أغريب هذا الصوت؟ عشرون خريفاً تسمعه، أما أحسست معناه إلا الآن؟
أجبت هذا الصوت، وجئت بالماء أهريقه على وجهي وجسدي المرهق؛ فيطفئ لظى الشقاء، ويعيد الهدوء إلى نفسي شيئاً فشيئاً، خرجت متجهاً نحو المسجد لأول مرة من عشرين عاماً، الكون مخيف بهدوئه، لا صوت يعلو، لا ضوضاء، دخلت مع إقامة صلاة الفجر، وقفت في الصف مع الناس، صنف من الناس لم أعهده في حياتي.
وجوه يشع منها النور، نفوس طيبة مرتاحة، تقدم من بينهم الإمام، وأقبل يحث على تسوية الصفوف، كبر وزلزل كياني تكبيره، شرعت أصلي خلفه، نفسي هادئة، صدري منشرح، يقرأ الآيات وأنصت في تلك اللحظات، لكلام لم أسمعه منذ سنوات وسنوات.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٢٥ - ٣٧].
تتسابق مني العَبَرَات، أحسست بملوحتها في فمي، شعرت بلسعاتها، أجهشت ببكاء صادق صنع في صدري أزيزاً كأزيز المرجل، انهال الدمع غزيراً، سال على خدي، سقى أرضاً مجدبة في قلب ميت، فأحيا بكلام الله موت فؤادي وبمعية ذلك الغيث صوت الرعد -رعد الرحمة- صوت نحيبي وبكائي من خشية الله رب العالمين، بعد إعراض دام عشرين، فالحمد لله رب العالمين، فالحمد لله رب العالمين.