[تذكر الموت وسكراته]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالأموات.
يقول عوف بن مالك: {صلَّى بنَا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدَخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو! لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه صلى الله عليه وسلم له}.
ومن رحمته بالأموات صلى الله عليه وسلم: أنه كان يذهب في الليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلاً، ويترحم عليهم طويلاً.
صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك؛ ابن عمر كان إذا قرأ قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: [[اللهم لا تَحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله]] فلا إله إلا الله! ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجَّل في صحيفته (لا إله إلا الله) ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقيَ الجزاء والحساب، فرحم الله امرأً قدَّم من الصَّالحات لتلك الحُفَر، ورحم الله امرأ حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا!
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لجُلاسه يومًا ما: أرقت البارحة فلم أنمْ حتَّى الفجر، قالوا: ما أسهرك؟ قال: لمَّا أويت إلى فراشي، ووضعت عليَّ لحافي، تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ليالٍ تمر عليه حينما تركه أهله وأحبَّته وخلاَّنه، تغيَّر رِيحُه، وتمزَّق كفنه، وسرى الدُّودُ على خدوده، فليتك ترى تلك الرائحة المنتنة، وترى تلك الأكفان الممزَّقة، إذًا لرأيت أمرًا مهولاً، ثم انفجر يبكي، ويقول: لا إله إلا الله! حاله:
والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ وإنَّ عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته ولا بأضعافها ما كنت آتيها
تجهَّزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثًا
كفى بالموت واعظًا لمن كان له قلب، أو ألقى السَّمع.
يمرُّ عمرو بن العاص رضيَ الله عنه بمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: [[لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: تذكرت قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحال بيني وبينها]].
عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: [[يا أبتاه! صف لنا الموت، قال: يا بني! الموت أعظم من أن يوصف، لكأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السَّماء أُطْبِقَت على الأرض وأنا بينهما، ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ويبكي بكاءً مراً مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَا فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاثاً؛ لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا ويلتاه لو متُّ في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ النَّاس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فيا ليتني مِتُّ في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته عليّ.
يقول: ثم تخلفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلَعِبَت بنا الدنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله؛ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله]] ثم قُبض على لا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].
كفى بالموت واعظًا!
يقول ابن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا بن عوف! ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟]] حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لا فيكا
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
كفى بالموت واعظاً، وبسِيَر الصالحين عنده عبراً!
تُحلُّ السَّكرات بـ محمد بن أسلم وتصيبه رعدة، يقول خادمه: كان يصيح ويقول: مالي وللناس، والذي لا إله إلا هو! لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني مَلَكَايَ لفعلت؛ خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، فيغلق بابه فيقرأ القرآن، ويبكي، وينشج، فيسمعه ابنٌ له صغير، فيقلِّده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل؛ لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: أبشر؛ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليَّ أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني -والله- لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق عليَّ الباب، ولا تأذن لأحد عليَّ حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغَطُّوا عليَّ بكسائي، وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحِنْطِ والكفن
كفى بالموت واعظاً!
فوالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيِّناً سهلاً، لكنه مع شدَّتِه وهَولِه أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هينٌ إذا قُورِنَ بالوقوف بين يديْ الله الكبير المتعال.
تلفَّت المرء يميناً فلم ير إلا ما قَّدم، وشمالاً فلم ير إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجهه فلم ير إلا النار.
فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد!
يبلغ العرق أن يُلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث! مجرد تصورها يخلع ويذيب القلوب!
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
روي عن الحسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرةَ عائشة رضيَ الله عنها فسالت دموعها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه؛ إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله.
وعند الصراط -نعم عند الصراط- أيمرُّ أم يكردس على وجهه في جهنم}.
يؤتى بابن آدم حتى يُوقف بين كفَّتيْ الميزان، فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت واقف بين الخلائق، إذ نوديَ باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال.
قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف، وذل، وانهيار أعصاب:
شبابك فيما أبليته؟
عمرك فيما أفنيته؟
مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟
علمك ماذا عملت به؟
هذه الأسئلة فما الإجابة؟
كم من كبيرة نسيتها قد أثبتها عليك المَلَك؟
كم من بلية أحدثتها؟
كم من سريرة كتمتها ظهرت وبَدَتْ أمام عينيك؟
أَعْظِم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! وأعظم به من حياء يُداخلك، وغمٍّ، وحزن، وأسف شديد!
فإما أن يقول الله: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيا لسرورك! وهدأة بالك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإما أن يقول الله- عافاك الله وسلمك-: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فيُذهب بك إلى جهنم، مسوَّد الوجه، كتابك في شمالك، ومن وراء ظهرك، قد غُلَّت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رءوس الخلائق ينادى: شقيَ فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
عباد الله: الأمر خطير جد خطير؛ إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله برحمته ومَنِّه يقول: وعزَّتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر؛ فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين، اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم، عاملوا الله فلن تخيبوا: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٨١].
نفعني الله وإياكم بالقرآن، وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.