[الإكثار من ذكر الله وفضائل ذلك]
الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقلب القلوب والأبصار، مقدر الأمور كما يشاء ويختار، مُكَوِّر الليل على النهار، خلق الشَّمس والقمر بحسبان ومقدار، وجعلهما مواقيت في هذه الدار، حكمة بالغة من عليم ذي اقتدار، أحمده وأشكره، وفضله على من شكره مِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُقَدِّرُ الأقدار، شهادة تبوئ قائلها دار القرار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البدر جبينه إذا سُرَّ استنار, واليمُّ يمينه إذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، الحَنِيفيَّة دينه الدين القَيِّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرق بشرعته بين المتقين والفجار، حتى امتاز أهل اليمين عن أهل اليسار، فتح الله به القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، والآذان فزال عنها ثقل الأوقار، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار
ما ناض برق وما هب النسيم وما مس الحجيج لبيت الله أركانا
أو قهقه الرعد في هدباء مدجنة أو ناح طير على الأغصان أزمانا
والآل والصحب ثم التابعين لهم على المحجة إيماناً وإحسانا
ما هبَّ نشر صباً واهتز نبت ربىً وفاح طيب شذاً في نسمة السحر
معشر المؤمنين: أحييكم بأسمى وأجلِّ وأجمل تحية، تحية هذا الدين؛ الذي نظم الله به عقد أمتنا بعد انفراط، ووحدها بعد فرقة، وجمعها بعد شتات، صقل به نفوسها، وهذَّب طباعها، وشحذ عزائمها، وشذَّب أخلاقها، حتى جعلها خير أمة أخرجت للناس، مُتآلفة القلوب، مُتآخية الأرواح: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣].
فسلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أهل وصحب وإخوان.
أنى التقينا التقى في كل مجتمع أهل بأهل وإخوان بإخوان
حسبت نفسي نزيلاً بينكم فإذا أهلي وصحبي وأحبابي وإخواني
من كل أبلج سامي الطرف مضطلع بالخطب مبتهج بالذكر جذلان
يمشي إلى الذكر بساماً ومنشرحاً كأنه حين يبدو عود مران
يا أهل ينبع قد طوقتم عنقي بمنةٍ خرجت عن طوق تبيان
قد قلتها غبطة لله دركم ليس الفلاح لوان غير يقظان
لي موطنٌ في رحاب البيت أعظمه ولي هنا في حماكم موطن ثانِ
لا أوحش الله ربعا من زيارتكم يا من أثاروا بقلبي جل أشجاني
إنَّ من سوابغ نعم الله عليَّ أن ألتقي بمثل هذه الوجوه التي لا أحسبها إلا بالإيمان مشرقة، والبصائر التي لا أظنُّها إلا باليقين متفتحة، والقلوب التي لا أحجوها إلا بالصدق عامرة، والآذان التي لا أُراها إلا للخير سامعة واعية، فلله الحمد في الأولى والآخرة.
كل من تلقاه أو يحدِّثُك يأخذ منك ويعطيك، ويترك في نفسك أثراً حسناً أو سيئاً مؤقتاً أو باقياً، ومن تلتقي بهم في دروب الحياة على أصناف ثلاثة -كما يقول الحكيم- فمنهم من يمر مرور السَّيل العَرَمْرَم الدَّفَّاع يدمر العمران، ويقتل الحيوان، ويؤذي الإنسان، ومنهم من يمر مرور ماء النهر على الصخر لا يترك أثراً، فلا يُنبت زهراً، ولا يُخرج ثمراً، ومنهم من يمر مرور الماء على الأرض البِكر تكون قبله قاحلات مُمْحلات، وتصير بعده جنات وبساتين مُمْرعات، مبارك أينما كان.
درة كيفما أديرت أضاءت ومشم من حيثما شم فاحا
أينما وَقَع نَفَع:
كالغيث من كبد السحاب هطوله يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كالبدر من حيث التفتَّ رأيته يُهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا
فأرجو الله بمَنِّه وكرمه أن نكون من هذا الصنف المبارك.
مثل فرع بدوحة العز تأوي تحت أفنانه عفاة الديار
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس في هذه الدار على جناح سفر، وكلٌ مسافر ظَاعِن إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره، ونازل عليه عند القدوم عليه.
وللمسافر غايات يؤمِّلها لا شيء يشغله عنها فيحصيها
معاشر الإخوة! لا زلنا على الطريق، نغري ونحذر، نرغب ونرهب، نشير ونصرح، نوري ونلمح.
إن تردد العقل بين حق وباطل كانت دعوتنا على الطريق إلى الحق، إن تردد الطبع بين فضيلة ورذيلة كانت دعوتنا على الطريق إلى الفضيلة، إن ترددت النفس بين الشهوة والواجب كانت دعوتنا على الطريق إلى الواجب، إنه طريق شاق ولا شك؛ لِمَ؟
لأن الانحدار مع الهوى سهل، والصعود إلى المثل الأعلى صعب وحزن، الماء ينزل وحده حتى يستقر في قرارة الوادي، لكنه لا يصعد إلى الأعلى إلا بالمضخات والجهد العاتي.
من الناس من شغلتهم على الطريق توافه الحياة عن مقصد الحياة، وألهتهم مناظر الطريق عن غاية السفر، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، يعملون ليومهم وحده كالسوائم، لا يرون إلا ما بين أقدامهم، صفوف معوجة منشقة، وقلوب خاوية حائرة، سجدة خامدة لا حرارة ولا شوق فيها جامدة، انطفأت من القلب شعلته، وخمدت في الفؤاد جمرته؛ لذا كان لابد على الطريق من إشارات تحدو من سلك، وتغري من قعد وتسمو به، تدعو إلى مد البصر إلى الأمام، والنظر إلى البعيد والعمل لليوم والغد ولليوم الآخر، في صفوف موحدة وقلوب عامرة.
وقد سبق عرض إحدى عشرة إشارة في محاضرة سابقة، واليوم نعرض للجزء الثاني منها، والذي ما هو إلا حصيلة جهد مقل؛ لك غنمه أيها المستمع وعلى القائل غرمه، لك ثمرته وعليه عائده، فإن عدم منك حمداً وشكراً فلا يعدم منك عذراً، فإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، والله المسئول أن يجعلها لوجهه خالصة وأن ينفع بها قائلها وسامعها ومستمعها في الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل.
فسهل يا إلهي كل صعب فمن غير الرءوف لنا يسهل
وأهلا بالدليل إلى المعالي ألا سر يا دليل ونحن نسري
الإشارة الثانية عشرة: لا تكن بيتاً بلا سقف.
بمعنى: لا يزال لسانك رطباً على الطريق بذِكر رب العالمين، فلا تكن من الغافلين، إن بيتاً بلا سقف حَرِيٌّ أن يكون مَرتعاً للغُبَار والقاذورات، ومأوى للهوَامِّ والحشرات، كذلك إن بيتاً لا يُذْكر الله فيه لا سَقْف له، خراب بَلْقَع لا داعي به ولا مجيب، و {مَثَلُ البيت الذي يُذْكر الله فيه والبيت الذي لا يُذْكر الله فيه مثل الحي والميت} كما في صحيح مسلم رحمه الله، إن إنسانا لا يَذكر الله لا سقف له، حَيٌ بعَظْم مَيْت.
إذا ما الحي عاش بعظم ميت فذاك العظم حي وهو ميت
و {مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحيِّ والمَيْت} كما ثبت عند البخاري رحمه الله.
والناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فلم أَر غير حكم الله حكماً ولم أر دون ذكر الله بابا
خذ ما يسر ودع شيئاً تضر به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
إنَّ جَمعًا لا يُذكر الله فيه لا سقف له، مضطرِب أَرِق قَلِق.
كريشة في مهب الريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق
{والدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذِكر الله وما وَالاه، وعالِماً أو متعلِّماً}.
في الزهد لـ ابن المبارك رحمه الله: أنَّ أبا مسلم الخولاني رحمه الله دخل مسجداً، فرأى فيه حلقة، ظنَّهم في ذِكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: سبحان الله! هل تدرون -يا هؤلاء- ما مثلي ومثلكم؟ مثلي ومثلكم كمثل رجل أصابه مطر غزير، فالتفَت فإذا هو بمِصرَاعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت حتى يذهب عني المطر، فدخل فإذا هو ببيت بلا سقف، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير وذِكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا.
كم حديث يظنه المرء نفعا وبه لو درى يطول البلاء