[الحق يدفع الباطل]
الصفحة الأخيرة: الحق يدفع الباطل:
أورد ابن كثير في البداية والنهاية: أنه في القرن الخامس الهجري زور يهود خيبر إحدى الوثائق -وكثيراً ما يزورون ويغشون ويكذبون ويفترون ويمكرون، وتاريخهم لا يخفى على ذي عين- زعموا في وثيقتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وأقرهم على خيبر، يمكثون فيها ما شاءوا، وكما هو معلوم فقد أخرجهم عمر رضي الله عنه وما أخرجهم عبثاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب}.
فحاولوا بهذه الوثيقة الرجوع إلى خيبر، كما يحاولون في كل زمان وبكل الوسائل المتاحة لإطفاء النور، ولن يرضوا حتى تتبع ملتهم، والله متم نوره ولو كرهوا وخططوا ودبروا ومكروا والله خير الماكرين، والعاقبة للمتقين.
زوروا الوثيقة وجاءوا بها إلى الوزير العباسي أبي القاسم بن مسلمة، جاءوا إليه وقالوا: معنا كتاب نبوي بإسقاط الجزية وإقرارنا على خيبر، بكتابة صحابي، وشهادة الصحابة، فنظر الوزير في الوثيقة وفكَّر وقدَّر وتأمل وتملَّى، ثم لم يفصل في المسألة، بل رد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه.
دفع الكتاب -وحسناً فعل- إلى الحافظ الخطيب البغدادي؛ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره، فنظر فيها ثم قال: هذا كذب والذي لا إله إلا هو! قال الوزير: كيف ذلك؟ ما دليل كذبها؟ أريد دليلاً.
قال: لأنها بكتابة وشهادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ولم يكن أسلم إلا عام فتح مكة، فكيف يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم أو يشهد قبل إسلامه بعام، هذه واحدة.
أما الثانية: فإنها بشهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ قد مات بعد الأحزاب وقبل خيبر، فكيف يشهد بعد وفاته بأكثر من عام؟
فبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين، وخابوا وخسروا، أولئك في الأذلين.
وبذلك نقضت الوثيقة، وظهر زيفها وباطلها، ولو جيء بها إلى غير أهلها -العلماء- لوقعت الأمة في شباك أعدائها ولكنه العلم.
العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سوادَ الظلمة القمرُ
وقبل ذلك بعدة قرون يجيء رجل من الخوارج إلى أبي حنيفة رحمه الله فيقول له: تب وعد إلى الله، قال أبو حنيفة: مِمَّ؟ قال الخارجي: من قولك بتجويز الحكمين في الخلاف بين علي ومعاوية، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} [الأنعام:٥٧] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤].
فقال أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الموضوع؟ قال الخارجي: قد قبلت.
فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا فمن يحكم بيني وبينك؟
قال الخارجي: من شئت.
قال -وكان مع الخارجي صاحب له آخر- فالتفت أبو حنيفة إلى صاحبه وقال: اقعد فاحكم بيننا فيما اختلفنا فيه إن اختلفنا، فسر الخارجي بكون صاحبه هو الحكم، عندها فاجأه أبو حنيفة قائلاً: أترضى بهذا حكماً بيني وبينك؟ قال: نعم.
فقال أبو حنيفة: إذاً أنت جوَّزت التحكيم، فبهت الخارجي ولم يحر جواباً، وبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين.
العلم فيه حياة للقلوب كما تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
وإن نسيت فلا أنسى بالأمس القريب يوم يزور أحد علماء المسلمين مدرسة نصرانية، ويُجري حديثا طويلاً بينه وبين مديرها، فكان مما قاله هذا العالم لمديرها: لماذا تحملون على الإسلام وعلى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتبكم المدرسية، وفي اجتماعاتكم بما لا يصح أن يقال في عصر تعارفت فيه الشعوب، والتقت فيه الثقافات كما تدعون؟
فأجاب قائلاً: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج من تسع نساء؛ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن تحترمون من أنبياء الله؟ هل تحترمون نبي الله داود عليه صلوات الله وسلامه؟ قال: نعم.
إنه من أنبياء التوراة، قال: ونبي الله سليمان؟ قال: نعم.
إنه من أنبياء التوراة أيضاً.
فقال العالم المستضيء بنور العلم الساطع، بحجة الحق: إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة، وأكملهن مائة من أجمل فتيات زمانهن، ونبي الله سليمان كما جاء في التوراة له سبعمائة زوجة وثلاثمائة ألف جارية، وكن من أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعاً؛ ثمان منهن ثيِّبات وأمهات، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة العمر، فسكت الرجل، وألقم الحجر، ولم يُحِر جواباً، والحق يعلو والأباطل تسفل.
أرأيتم إلى العلماء -يا أيها الأحبة- كيف يدفعون الشبه عن الأمة، ويلجمون من يقع في الأنبياء؟ لأنهم ورثة الأنبياء، بل إنهم صمام أمان الأمة ولا شك، إليهم يُرْجع في النوازل والمدلهمات، فضلهم عظيم، وخيرهم جزيل، الحيتان والنمل لهم في البحر والجحور تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة تشفع، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع منهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بجميل موعظتهم يرجع المقصرون.
الطاعة لهم في غير معصية الله واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على ولاة المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون وبعلمهم وعلى علمهم يعولون.
حجة الله على العباد، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} [النساء:١٦٥] هم سراج البلاد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة.
هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيف، مَثَلهم في الأرض كالنجوم في السماء يُهْتَدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا طمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر الظلام أبصروا.
فليس ذو العلم بالفتوى كجاهلها ولا البصير كأعمى ما له بصر
لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع في العلماء بالسلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب.
أحبتي في الله: هذا ما تيسر جمعه من مطوي الصفحات من تاريخ مشرف احتوى على أحداث ووقائع قامت على أكتاف رجال كالنجوم تضيء لمن يسري، وتبدد الظلام، رجال أسسوا حضارة نابعة من عقيدة ليست مسخاً مشوَّهاً من حضارات مشوهة، لم يقيموا حضارتنا على فكر بشري، أو رؤية شخصية، بل أدركوا دورهم وفق ما شرعه الله، فقدموا الإسلام في صورة بناء حقيقي متماسك، في صورة مجتمع ملموس محسوس، في صورة أمَّة واقعية، فلم يتخلوا عن حياتهم، ويقبعوا في زوايا مساجدهم، بل انتشروا في الأرض يدعون بدعوة المرسلين: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٣٢] فكانت حضارة الإسلام التي نعم بها العالم أجمع، حضارة تجمع الدين والدنيا، تحققت بها مطالب البشرية من غير اعتبارات جاهلية لعنصر أو لون أو قومية، أكرمكم أتقاكم.
صفحات مطوية مضيئة وضعتها بين أيديكم مشعلاً ومناراً ومَعْلَماً ومقتدىً مع اشتغال البال، وكثرة الأوزار، فلعل سامعاً ينتفع بها.
جعل الله الجهد نافعاً، وجعلني للحق طالباً، ومن الشر محذراً، وإلى الخير منادياً.
فلئن أُفِدْ أو قد أَجَدتُّ فإنها مطوية من ربنا الباري فَتَح
فالله يجزيكم بأجر وافر ويثيبكم ويزيدكم مِمَّا صَلَح
ويبارك الرحمن في أوقاتكم حتى نرى منكم سواها قد نجح
ثم الصلاة مع السلام لأحمد والآل والأصحاب ما نُور وَضَح
اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واخلفنا بركنك الذي لا يرام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا.
يا رب كم من نعمة أنعمت بها علينا قلَّ لك عندها شكرنا، وكم من بليَّة ابتليتنا بها قل لها عندك صبرنا.
يا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا! ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا! يا من رآنا على المعاصي فلم يفضحنا! يا ذا النعم التي لا تحصى! يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً! هب لنا فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، وأعنَّا على ديننا بدنيانا، وعلى آخرتنا بتقوى، وكن لنا في الآخرة والأولى، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وتول أمرنا، أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.