[معايشتهم لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم فيه]
كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفاً يكفرون بالله قد خرجوا بطراً ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله؟!
ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ
تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ
كيف لا يصدقون، وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]؟!
كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية، وقد بلغوا ألفاً وأربعمائة وأكثر من ذلك، فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:١٨]؟!
كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى مكة التي أخرجوا منها فاتحين، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً شاكراً لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجيء الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله.
وإذ بالذين أخرجوه نكست رءوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريماً، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء}.
يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم
كيف لا يصدقون، وهم ضمن ثلاثين ألفاً يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية، وكان له ذلك؟!
كيف لا يصدقون، وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه، على الصفا يكبر ويقول: {خذوا عني مناسككم} في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه صلى الله عليه وسلم، عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين؟!
فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألفاً، إلى مائة ألف؛ ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواً بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هو الأقل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩].