[الحذر من الانجرار إلى معارك وهمية]
ثم أقول لكم أيها الأحبة: بعد ذلك ينبغي ألا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك.
وأضرب لكم مثالاً في هذا الوقت الحاضر:
جريدة الندوة -على سبيل المثال- في مكة المكرمة مع الأسف، وما قامت تكتب فيه من أشياء.
سبحان الله! اتجه الشباب عموماً -حتى إن الإنسان ليحزن ويأسى على ما يرى- اتجهوا كلهم ليشتروا هذه الجريدة الكاسدة التي كنت تراها معلقة الليل والنهار ولا أحد يأخذها.
أيها الإخوة! لا ينبغي أن نغضب لأنفسنا، علينا أن نسمو فوق ذلك، وهؤلاء لا ننظر إليهم:
لو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينارِ
لا ينبغي أن نستجر من غيرنا، لا ينبغي أن يحركنا غيرنا، بل يكون تحركنا ذاتياً، نحن الذي نحرك أنفسنا متى شئنا، ومتى رأينا أن الوقت مناسب نتحرك، هذا مثل من الأمثلة يدل على أن هناك خلل أيها الأحبة.
في وقعة أحد وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه، وأبو سفيان رضي الله عنه ينادي قبل أن يكون مسلماً ويقول: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فلم يأمرهم بالرد، مع أن الجواب قد يكون أغيظ له في ذلك الوقت، لكن من باب قول القائل:
والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأسد تُخشى وهي صامتةٌ والكلب يخزى لعمر الله نباحُ
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوتُ
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموتُ
كذلك -أيها الأحبة- اللين اللين، والرفق الرفق، نحن لا ندعو يهوداً ولا نصارى، نحن ندعو إخواننا، وعليهم من المعاصي ما عليهم، وعليهم من الأخطاء ما عليهم، فلنلن لهم.
بعضنا يشتد على إخوانه الذين يرتكبون معصية من المعاصي أكثر مما يشتد على المجوسي والشيعي والرافضي واليهودي والنصراني، وهذا خلل يأيها الأحبة.
إن إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله يمر في يومٍ من الأيام على يهودي معه كلب، فيقول اليهودي وهو يسخر ويستهزئ -وهم لا يزالون يسخرون ويستهزئون ويتهكمون بالأمة إلى قيام الساعة، أمرٌ معروف عنهم وسنة متبعة- فيقول له: ألحيتك أطهر أم ذنب هذا الكلب؟ فلم يستفز بهذا الموضوع، وإنما قال له: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار فذنب كلبك أطهر، فقال هذا اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء.
وهذا أثر الكلمة اللينة، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩].
يجب علينا ونحن نسلك هذا الطريق أن نسلكه برفق، وأن نمشي بخطىً ثابتة؛ لأننا نحمل ديناً ثابتاً باقياً ما بقيت السماوات والأرض، فيدخله الله عز وجل كل بيت بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، فتبقى طائفة على الحق منصورة، إنما جند نفسك لتمشي في ركاب هذه الطائفة.
هذه كلمات أستطيع أن أقول: إنها متفرقات، وأنا -وكما قلت في بداية المحاضرة- كمثل من يبيع زمزم على أهل مكة.
مشكلة من المشاكل ليست في الدعوة فقط، وإنما في الدين كله، هناك من يمشي ويمشي ثم يسقط، وإن لكل عملٍ شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة، فهذا هو الذي نريد، لكن المشكلة من كانت فترته إلى أخرى.
أقول أيها الأحبة: إن الإنسان يسمو أحياناً ويرتفع فأقول له:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون
إذا وجدت الإقبال على الدعوة إلى الله عز وجل فلا تتأخر، واستغل هذا الإقبال؛ فإن الحياة فرص، متى ما ضيعت فرصة فقد لا تتعوض، وقد تعض عليها أصابع الندم، فإذا جاءك الإقبال ووجدت الإقبال من نفسك، فضع لنفسك حداً معيناً، فإن استطعت أن تزيد عليه فزد، فهذه فرصة، لأنك قد لا تجد هذه الفرصة في يوم من الأيام، لكن إذا جاء العكس -أيها الأحبة- سواء كان في دعوة أو في أمرٍ آخر، فاجعل لك حداً معيناً لا تنزل عنه، على سبيل المثال إذا كنت تخصص في اليوم الواحد للدعوة مثلاً أربع ساعات فليكن الحد الأدنى لك في حالة الفترة ساعتين مثلاً، هذه الساعتان لا تنزل عنها أبداً حتى ولو تخطفت.
على سبيل المثال: قيام الليل، أحياناً يأتي للإنسان رغبة في قيام الليل أقول: قم ما استطعت، لكن بعض الناس يقوم ما استطاع اليوم وغداً وبعد غدٍ والذي وراءه، ثم يأتي فيترك القيام بعد ذلك: {أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل}.
فأقول: اجعل لك حداً أدنى، وليكن ركعتين في الليلة، ركعتين مع الوتر وانتهى الموضوع، هذه لا تنزل عنها ولو تخطفت تخطفاً، أما ما فوقها فيتفاوت الأمر إلى ما لا نهاية، فعلى الإنسان أن يجعل لنفسه حداً معيناً، ففي وقت الفترة يقف على هذا الحد، وفي وقت الإقبال يستغل كل ما لديه من قوه، ثم عليك برفقة الصالحين، الداعية إذا انعزل لوحده جاءه إبليس فخذله، وقال له: دع هذا اليوم، اليوم أهلك أحق بك، وغداً فلان أحق بك، ولنفسك عليك حق، وإن من حق النفس عليك أن تبلغ ما أمرها الله عز وجل به، يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها، بم تجادل إذا لم تقم هنا بما أوجب الله عليها؟
فعليك برفقة الصالحين، وعليك بالاجتماع بإخوانك، فإن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأحياناً يأتي الإنسان وبه خيبة أمل عظيمة مما يرى، لكنه يأتي إلى أحد إخوانه، فيعطيه عزيمة، تفل الحديد، فعليك بإخوانك، فإن المرء -كما قلت- كثيرٌ بإخوانه قليلٌ بنفسه.
وفقنا الله وإياكم إلى استغلال كل خير! وصلى الله وسلم على نبينا محمد.