هاهو أحد المحدثين بـ خراسان، واسمه محمد بن عاصم عليه رحمة الله له بُنيات صغار، لا ولد ذكر يقوم عليهن، انتقل إلى بغداد يوم سمع بمحنة الإمام أحمد ليحدث الناس، ويسد ثغرة قد فُتِحَت في ذلك البلد، ترك بنياته بـ خراسان، وسمع في بغداد بتلك المحنة، فانطلق إلى الإمام أحمد، وقد علم أنه سُجن وعُذِّب وأوذي في الله عز وجل، فقال لأصحابه - وهو يحدث يوماً من الأيام في حلقته-: ألا نقوم فنقول كلمة الحق؟ وقام ليقولها، وتذكر بنياته اللاتي تركهن في خراسان، وعلم أن رجلاً يقوم ليقول كلمة في ذلك المقام ما عاقبته إلا الموت.
وهو في هذا الصراع مع نفسه يأتيه كتاب من بنيَّاته يقلن له: يا أبانا! إنا قد سمعنا أن الرجل قد دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، وإنا نأمرك بألا تجيب؛ فوالذي لا إله إلا هو -يا أبانا- لأن يأتينا نعْيُك أحبُّ إلينا من أن نسمع أنك قلت بخلق القرآن.
الله أكبر! إنه البناء في أوساط النساء، وفي أوساط البنات، وفي أوساط الرجال، أُسَرٌ لم تعرف إلا ربها فهان في سبيله كل شيء، واستعذب في سبيله كل صعب.
كل بذل إذا العقيدة ريعَتْ دون بذل النفوس بذل زهيد
مسلم يا صعاب لن تقهريني في فؤادي زمازم ورعود
لا أبالي ولو أُقيمت بدربي وطريقي حواجز وسدود
من دمائي في مقفرات البراري يطلع الزهر والحيا والورود
هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها، لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهناً عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزناً على فائت من الدنيا؟
إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، وليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئاً.
هذا هو الصنف الأول من الناس، ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف.