صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به:{من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين}{وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه}.
فإذا براعي الغنم في باديته الذي رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعياً.
اجتمعوا يوماً من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة؛ فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم.
يقول عقبة وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحداً تلو الآخر، وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس، فطفقوا واحداً بعد الآخر يذهبون ويرجعون، فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا.
يقول عقبة: ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس! من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه مشافهة بلا واسطة، والله! لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة، فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيراً ما أردفه صلى الله عليه وسلم على دابته، وربما نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليركب عقبة.
جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم العذبة حتى غدا مقرئاً محدِّثاً فقيها فَرَضِياً أديباً فصيحاً شاعراً، بل كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله عز وجل ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله جل وعلا، حتى كان يدعوه عمر -رضي الله عنه- ويقول:[[اعرض عليَّ شيئاً من كتاب الله.
فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل دموعه لحيته]].
قاد الجيوش فكان قدوة لكل قائد، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفاً تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟
إنها بضع وسبعون قوساً، أوصى أن تكون في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن.