[من آثار الإيمان: أنه حجاب من المعاصي]
ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
إن المؤمن -يا أيها الأحبة- يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده، ففي الأثر أن الله عز وجل قال: {وعزتي وجلالي! ما من عبد آثر هواي على هواه -أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها- إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واتجرت له من وراء كل تاجر}.
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه الربيع بن خثيم، يتمالئ عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغاً من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خيثم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان.
فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله! كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟!
فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة.
وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع.
فما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إنها الشهوة العظيمة، إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها -سن الثلاثين- ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو.
الإيمان -يا أيها الأحبة- كالجمرة، متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة.
وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.
هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائماً لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلاناً، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، فألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه.
فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة -أن ننتهك حرمة البيت الفلاني- أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة -كما يقول- فما كان من هذا -وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج في نصف الليل -وكان نائماً- مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية -لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل- برجليهما، ويذهبان إلى الفاحشة.
ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارساً بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصا غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس -والذي كان نائماً في نومته- فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل.
يا لله! ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضاً- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون للبحث عن الثاني.
وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائماً معهم في القرية الفلانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي: أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
ليس هذا فحسب، فإليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ سلمان العودة في كتابه: جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليتبين لك أثر نقص الإيمان في موت القلوب.
ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عاماً جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولوداً في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها.
فطلبوا منها بعد أيام من الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مراً مستمراً حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء.
فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟
وما الخطب؟
وما الحدث؟
وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله! لا إله إلا الله ما أفظع الأمر! وما أقبحه!
والله! لو قيل: إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفاً، ولم ينكروا منكراً؟!
ولا تستبعد مثل هذا -أخي المسلم- فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته، ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته، وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضاً، والسقوط شيئاً فشيئاً، ورحلة الميل تبدأ بخطوة واحدة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.