[من عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله تعالى]
ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله جل وعلا، والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤] {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:٨٢] كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيراً وعلماً وعملاً وتدبراً، منه ينطلق، وإليه يفيء، أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيراناً، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليهما، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها: وحده أمام الناس عند من يثق به عند من لا يثق به؛ فالله يسمعه سمعاً يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال.
هو الذي يرى دبيب الذَّر في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي
فيا طلبة العلم؛ ويا أيها الدعاة إلى الله: إن الله يسمع ما تقولون، ويعلم ما تقولون؛ فلا تأسوا ولا تحزنوا.
يا أيها الدعاة إلى الشر والضلالة: إن الله يسمع ما تقولون، وما تسرون، وما تعلنون، وما تدبِّرون، وما تخططون؛ فاللهَ اتقوا، أما والله لو تفاعلت النفوس مع أسماء الله لتعلقت القلوب بالله فلا يقول الإنسان ولا يلفظ إلا بميزان، هل هذا الكلام مما يرضي الله الذي هو يسمعه وسيحاسب عليه فأقدم وإلا فلا.
في يوم من الأيام، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل رجل على زوجته مغضباً، وكانت مغضبة، وكان حديث عهد بجاهلية، فأغضبته، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، بمعنى أنها حرمت عليه، فنزل الخبر عليها مهولاً كالصاعقة.
إلى أين تذهب؟ ذهبت إلى من أرسله الله رحمة للعالمين؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دخلت عليه في بيت عائشة، وما ذاكم البيت يا أيها الأحبة؟ ما ذاكم البيت يا أصحاب القصور؟ غرفة واحدة، إذا جاء الضيف أو السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وُضع ساتر في وسط الغرفة، وتجلس عائشة في أقصى الغرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع السائل والضيف في أدنى الغرفة.
قالت: يا رسول الله! ظاهر مني، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! أكل مالي، وأفنى شبابي، نثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلاّ قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا.
تجادل وتحاور الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة في الشق الثاني من الغرفة يخفى عليها بعض كلامهم.
ويأتي الحل مع جبريل من عند السميع البصير يقول: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:١] وتنزل كفارة الظهار كما تعلمون، ولك أن تتخيل -يا أيها الأخ الحبيب- عائشة بجانبهم يخفى عليها بعض كلامهم، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسُمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه الرحمن بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه، يسمعها ويسمعهم؛ بل {مَا يَكُونُ مِن نجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧] إنه الكمال المطلق لا إله إلا هو السميع البصير، تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[تبارك الذي وسع سمعه السماوات والأرض وكل شيء، لقد سمعها من فوق سبع سماوات، وما سمعتها وما بيني وبينها إلا الحجاب]] أو كما قالت.
إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفة تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك.
فيا أيها العبد المؤمن إذا لقيت عنتاً وظلماً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن.
يا طالب العلم، يا أيها الداعية: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وحصل الإصرار والاستكبار، فلا تحزن؛ إن الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١].
يا أيها الشاب الملتزم الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية، فسمع زميلاً يسخر منه، ويهزأ به؛ لا تأسَ، ولا تحزن، واثبت، واعلم علم يقين أنك بين يديْ الله يسمع ما تقول وما يقال لك.
وسيجزي فاعلاً ما قد فعل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] {وَمَا يَعْزُبُ عَن ربكَ مِن مثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} [يونس:٦١].
سمعتم -يا أيها الأحبة- ما سمعتم، إن النفوس يوم تربى على تدبر كتاب الله جل وعلا والوقوف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتخذه قدوة مطلقة، وتقتدي بمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
تُبنى بناءً لا يزعزعه أي عارض في أي شبهة أو شهوة أو ترغيب أو ترهيب أو إغراء أو تحذير؛ بل تعلق باللطيف الخبير السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.