[دور الصديق في نصرة المستضعفين من المسلمين]
صور أخرى: تلفت أبو بكر وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام، وهويته ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه فلم يستبق في نفسه بقية، استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين قد صب عليهم طغاة الكفر وصناديد الشركة وسدنة الوثنية سوء العذاب، حبسوهم، جوعوهم، عطشوهم، عذبوهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨].
ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أنَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار.
في السيرة لـ ابن كثير يقول ابن عباس: إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم.
افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:١٠٦].
الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢].
أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة.
يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـ مكة - توضع على صدره ثم يقول له أمية: لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول:
أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً بنار شوقي إلى الأفياء والغرف
وقد أمر على الدنيا وسادتها من الطغاة مروراً ليس بالجيف
أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـ أبي بكر، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح.
يقول أمية: يا أبا بكر! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر: [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]].
إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة و p=١٠٠٠٠٧١> النسية وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة.
ويأتي المنافقون: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:٧٩] {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:٥٨] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـ بلال عنده، أي: لمعروف كان لـ بلال عنده.
وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:١٩ - ٢١] أي متاع يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
أي زخرف يساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
أي دنيا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؟!
من الذي وعده بالرضى؟
إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:٣٠].