[من آثار الإيمان بعد الموت]
ومن آثار الإيمان: السكينة والثبات في القبر يوم تطرح وحيداً فريداً لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش التراب مرتهناً بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسناً تريد الزيادة، وتعض أصابع الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئاً ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في تلك اللحظة؟
وأنت على هذه الحال -يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها، جعلنا الله وإياكم من سكانها.
أحد الشباب يأتيني في يوم جمعة ويقول: يا شيخ! رأيت أخي الذي مات قبل فترة في المنام، وأحببت أن أذكِّرك بهذا لتذكِّر الناس بمثل هذه الرؤيا، قال: فقلت لأخي لما رأيته في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني فله الحمد والمنَّة أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، قلت: فبم توصينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، وألا تناموا ليلة من الليالي إلا وقد تعبت أقدامكم من الوقوف بين يدي الله، واحمرَّت أعينكم بكاءً من خشية الله؛ فو الله ما نفعنا هنا بعد رحمة الله إلا تلك الأعمال.
وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:٣٠] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧] يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به، يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي، أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى، حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، قد بلغ العرق منهم الحناجر، ثم يقول الله: {يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: أخرج بعث النار من ذريتك، قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون}.
يومها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان: يوم تعرض السجلات سجلاً سِجلاً، وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويوماً يوماً لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يوم ينادى على رءوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
وتظهر آثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار تساقط الفراش على الشهاب.
وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:٧٠] فإلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].
فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلمُ
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الله والدار الآخرة والدنيا معاً فالطريق الإيمان.
عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عاماً أو خمسين أو أقل أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز: {ادْخلُوُا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:٧٠]
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تَضَّرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيَّم
وحيَّ على روضاتها وخيامها وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن ترزقنا إيماناً نجد حلاوته، وقلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعيناً من خشيتك مدرارة.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُذلُّ فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم انفعنا بما قلنا، اللهم انفعنا بما سمعنا، اللهم واجعله حجَّة لنا، اللَّهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.
اللهم أنت ملاذنا، اللهم أنت ملجؤنا، اللهم أنت حسبنا فلا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفة عين، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
اللهم كما جمعتني بأحبتي في هذه الروضة في هذه الليلة على ذكرك، فاجمعني بهم إخواناً على سُرُرٍ متقابلين.
هذه محاضرتي عليكم ألقيت، فلعلها موقظة الوسنان.
لم آتِ فيها من جديد مُحْدَثٍ غير اختيار اللفظ يا إخواني
فإذا أسأت فذاك من كسبي وإن أحسنت ذا فضل من المنان
وأهدي صلاتي والسلام جميعه لأحب خلق الله بالأكوان
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
وأعتذر كذلك عن الإجابة على الأسئلة، ولعل فيما ذُكِر خير، وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالقليل، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجمعنا بكم مرات ومرات ومرات، ثم يجمعنا في دار:
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها