[أحوال الناس مع صلة الأرحام وبر الوالدين]
وذاك يغدو: فإلى أين يغدو؟ يغدو ليقطع رحمه، يغدو ليوبق نفسه، يغدو لتحل به اللعنة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣] {لما خلق الله الرحم -كما ثبت- تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله عز وجل: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى رضيت}.
فمن وصل الرحم وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وبعضهم يغدو: ليعق والديه؛ والداه اللذان كانا في يوم من الأيام يجوعان ليشبع، ويظمآن ليروى، ويعريان ليكسى، ثم يأتي جزاء الإحسان عكسياً، أتعق والديك والله يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:٢٣]؟! قرنها مع عبادة الله جل وعلا، ويوم يجيل المسلم سمعه وبصره، يوم يجيل هذا يسمع ويرى، ويا ليته لا يسمع ولا يرى، غُيِّر اسم الأب عند بعض الناس، وأُهِينت الأم في بيوت كثير من شباب الإسلام، فما تسمع إلا شيبة النحس، وعجوز الشؤم، والدعاء بالراحة منهما، يوم كانا سبباً في وجوده بعد الله جل وعلا.
إن رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله عز وجل في سخط الوالدين.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين}.
دعوة الوالدين -يا أيها الإخوة- لا ترد، دعوة الوالدين مستجابة، كم من دعوة من والدٍ أوبقت دنيا الولد وأخراه، وكم دعوة أخرى أسعدت دنيا هذا الولد وأخراه.
يقول أبان بن عياش: خرجت من عند أنس بن مالك بـ البصرة، قال: وإذ بجنازة يحملها أربعة نفر، قال: فقلت: مسلم يموت يمر بسوق البصرة، لا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، وإذ بامرأة وراء هؤلاء الأربعة، ويذهبون ويدفنونه وعندما انتهوا قال: ما هذا الرجل؟ وما حكاية هذا الرجل لا يدفنه إلا أربعة؟ أين المسلمون؟ قالوا: سل تلك المرأة، استأجرتنا لدفن هذا الرجل.
قال: فذهبت وراء المرأة حتى دخلت بيتها، وطرقت عليها الباب فخرجت، وقلت لها: يا أمة الله! ما هذا الرجل الذي دفنتموه اليوم؟ قالت: إنه ابني، كان مسرفًا على نفسه، عصى الله، وارتكب الموبقات، ويوم حلت به سكرات الموت، قال: أماه! أتريدين لي السعادة؟ قلت: نعم، قال: إذا حضرتني الوفاة فلقنيني كلمة التوحيد، ثم ضعي قدمك على خدي بعد أن أموت، ثم ارفعي يديك إلى الله، وقولي: اللهم إني أمسيت راضية عنه، فارض عنه، قالت: وكان منه ما كان، ثم قال: ولا تخبري أحداً بموتي، فإنهم يعلمون عصياني، فلن يشهدوا جنازتي، ففعلت الفعلة، قال: فماذا حدث؟ قال: فضحكت، قال: قلت: ما يضحكك؟ قالت: والله بعد أن دفنته، سمعت صوته يهتف ويقول: يا أماه! بدعوتك قدمت على رب رحيم، غير غضبان عليَّ ولا ساخط.
دعوة الوالدين مستجابة، دعوة الوالدين تحتاج إلى أن نكسبها ولو بذلنا في ذلك كل شيء، ولو بذلنا الأبناء، ولو بذلنا الزوجات، ولو بذلنا كل شئ في سبيل هذه الدعوة لهان ذلك.
منازل! مثل للعقوق عند العرب، شاب منهمك في اللهو والمعاصي، لا يفيق من سكرة إلا ويطيح بسكرة شهوة أخرى، من لذة إلى لذة، وأبوه يدعوه إلى الله، ويطلب منه أن يكف عن هذه المعاصي، وأن يرعوي فيلطمه يومًا من الأيام، فيحلف بالله ليحجن البيت، وليتعلقن بأستار الكعبة يدعو عليه، ويحج إلى البيت، ويتعلق بأستار الكعبة، ويقول:
يا من إليه أتى الحجاجُ قد قطعوا أرضَ المَهَامِه من قربٍ ومن بُعدِ
هذا منازل لا يرتد عن عَقَقِي فخذُْ بحقي يا رحمنُ من ولدي
وشلَّ منه بحولٍ منك جانِبَه يا من تقدَّس لم يُولد ولم يَلِد
فشل جانبه الأيمن.
دعوة الوالد مستجابة، دعوة الوالد لا ترد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأذكر لكم مثلاً من الواقع، حكاه لي أحد الإخوة الذين أثق بهم، يقول: كان له جد لا ترد له دعوة، وكان أبوه راعياً للغنم في فترة مضت، قال: وكان هذا الأب قد سمع في تلك الأيام بأن السلك العسكري فتح أبوابه ليتوظف الناس، وهو في قرية، فقال: أترك الغنم، وأذهب لأتوظف، وذهب إلى أبيه وقال: يا أبتاه! أريد أن أذهب وأتوظف، وأصرف عليكم، خير لي من أن أبقى وراء هذه الغنم، ابحث عمن يرعاها، قال: لا آذن لك.
قال إذاً أذهب.
قال: والله لا أستطيع منعك، ولكن ما لي عليك إلا سهم أوجهه في وسط الليل إلى الله جل وعلا قال: فذهب وخاف ولم يستطع أن يذهب، وبقي أياماً وإذا الناس يتوافدون للدخول في السلك العسكري.
قال: وجئت في يوم من الأيام فأعطيت الغنم أحد جيراني، وذهبت مع مجموعة من الشباب، ولم أستأذنه في هذه المرة، فذهبت ولم يخبروا أبي إلا في اليوم الثاني أنني قد ذهبت، قال: فرفع يديه إلى الله جل وعلا وبينما هم في الطريق لم يصلوا إلى الطائف بعد، وإذ به يعمى وهو بينهم، فذهبوا به إلى الطائف، فقالوا: هذا لا يسجل، هذا أعمى أعيدوه إلى أهله، فأخذوه ودخلوا به على والده، ويوم دخل في فناء البيت، وإذ بأبيه يسمعه ويعرفه -ولا أريد أن أذكر اسمه- وإذ به يقول: أأصاب السهم يا بني أم لم يصب؟ قال: إي -والله- دخلت عليك أعمى.
فأدخلوه عليه فتأثر، وندم، وود أنه لم يدع عليه هذه الدعوة، وقام ليله كله -يقول هذا الأخ- وهو يبكي، ويضرع إلى الله أن يرد بصر ولده، قال: يبكي ومن كثرة تأثره بما أصاب ولده، يأتي إليه فيلحس عينه بلسانه، ثم يعود يصلي، ويدعو الله -عز وجل-.
يقول: وما طلع الفجر إلا وقد عاد بصيراً كما كان.
وهو رجل وداعية معروف، ووالده داعية معروف، وجده داعية معروف، لا أريد ذكر اسمه.
المهم أن دعوة الوالدين يجب أن نكسبها، ويجب أن نجعلها في أيدينا دائماً؛ لتنير لنا الطريق - بإذن الله- إلى الجنة، لكن الصور السيئة أكثر وأكثر، وهي صور -أيضًا- من الواقع، صورة بسيطة حدثت في منطقة الجنوب أيضاً:
بائع مجوهرات يحكي لي ويقول: جاءتني مجموعة في آخر رمضان، رجل وزوجته، وأمه، وابن هذا الرجل، قال: فجاءوا ودخلوا علي، قال: وكانت الأم على حياء واستحياء، معها ابن هذا الرجل -ابن ولدها، وابن الابن عند الأم كالابن- فأخذته ووقفت في الجانب، وجاءت زوجته، وأخذت من الذهب ما يساوي عشرين ألفاً، قال: وتقدمت الأم وأخذت خاتماً واحداً من ذهب قيمته تساوي مائة ريال.
قال: وعندما جاء ليدفع الحساب دفع العشرين ألفاً، ويوم دفع العشرين ألفاً قال صاحب المحل: بقي مائة ريال، قال: لأي شيء؟ قال: لهذا الخاتم الذي أخذته أمك -أخذته العجوز- قال: العجائز ليس لهن ذهب، وأخذه من يدها ورماه على الطاولة.
فما كان من الأم إلا أن تجرعت غصصها، وأخذت ابنه بين يديها وخرجت إلى السيارة، فأنبته زوجته، قالت: إنها ستخرج من عندنا، والزوجة لم تكن حريصة إلا على أن تمسك ابنها لها، لكن الأم ذاقت من المرارة ما ذاقت، ابنها يبخل عليها بمائة، ويعطي زوجته بعشرين ألفاً.
أي ظلم هذا يا أيها الإخوة؟!
قال: وعندما أنبته زوجته أخذ الخاتم، وذهب به إليها، قالت: والله لا لبست ذهبا ما حييت أبداً، ما كنت أريد سوى أن أفرح به يوم العيد مع الناس، فقتلت هذه الفرحة في نفسي، فسامحك الله.
إلى أين يذهب هؤلاء يا أيها الإخوة؟!
هذه صور من الواقع، وهذا جزء مما أعرف، وهذا يدل على أن هناك خلل في التربية، وخلل في البيوت، فلابد من إصلاح هذا الخلل، يصبح الابن مطواعاً، والله ما أطاع الله عبد إلا سهل له ولداً صالحاً يدعو له ويقوم على خدمته بإذنه تعالى، فضلاً من الله ومنَّة.
حق الوالدين عظيم يا أيها الإخوة: يطوف أحد الطائفين في أيام الحج، وعلى ظهره أمه، ويراه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيقول لـ عبد الله: يا عبد الله! أتراني أوفيتها حقها؟ هي أمي، قال: ولا طلقة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها.
طلقة واحدة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها.
بروا تبروا، البر دين، البر قرضة متى ما أعطيت اليوم براً وجدت براً بإذن الله جل وعلا والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.
يذكر أهل السير أن رجلا بلغ من الكبر عتياً، فوقف عليه ابنه يخدمه حتى ملَّ منه، ثم أخذه يوماً من الأيام على ظهر دابة، وخرج به إلى الصحراء، وجاء به إلى صخرة، قال: ما بك يا بني؟ قال: أريد أن أذبحك، مللت منك، ولا أستطيع القيام بخدمتك، قال: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: لابد من قتلك، قال: إن أبيت إلا قتلي فاذبحني عند تلك الصخرة، قال: فما ضرك أن تكون هذه أو تلك؟ سأذبحك، قال: لقد ذبحت أبي عند تلك الصخرة.
فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة، ولك يا بني مثلها، يقول: سيمتد بك الزمان، وسيهيئ الله لك من يذبحك عند تلك الصخرة وكل يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها.
والآخر يغدو ليبر والديه، ويصل رحمه، فيبره الله جل وعلا، ويصله الله عز وجل، ويدخله فوق ذلك الجنة.
شعاره: {ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها}.
هاهي الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، رضعت معه في بادية بني سعد في الطائف، رضعت معه وهي لا زالت في المهد هي وإياه، وبعد أربعين عاماً تسمع بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد انتصب وأصبح رسولاً نبياً وهو في المدينة، فما كان منها إلا أن جهزت رواحلها، وجهزت كل ما تأخذه من متاع من بادية بني سعد بـ الطائف، تريد أن تذهب إلى أخيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، تقطع الفيافي والقفار، وتذهب إلى هناك.
ويوم وصلت وإذا النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة يجيش الجيوش، ويدبر أمر الأمة، وإذ بـ عمر يلتقي بها فتقول: ائذن لي بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنت؟ قالت: أنا الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتني وإياه حليمة السعدية.
فما كان منه إلا أن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فترقرقت عيونه بالدموع وترك مجلسه، وقام ليقابلها، تذكر الوشيجة، وتذكر تلك الرضعات، وتذكر القرابة، وتذكر صلة الرحم، وقام ليلقاها، ويعانقها عناقاً حاراً، عناق الأخ لأخته بعد أربعين عاماً، ثم يقول لها: أهلاً بك يا شيماء! -أو كما يقول- ويرحب بها، ثم يجلسها صلى الله عليه وسلم في مكانه، ثم يظللها من الشمس، ثم يسألها عن أهلها، وعن أهل بلدها، وعن ربعها هناك.
ثم يخيرها فيما بعد ويقول يا شيماء: إن شئت الحياة حياتي، والموت موتي، وإلا إن شئت أن ترجعي لأهلك، فأنت بالخيار-أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاختارت أن ترجع إلى أهلها، فجهز لها ما جهز، وعادت إلى أهلها؛ ليضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في صلة الرحم لرضعات بينه وبين الشيماء، ماذا كان منه؟ كان منه أن أجلسها في مكانه، وظللها، وجعل الحياة حياته، والموت موته، خيرها بين كل شيء، برضعات بينه وبينها.
فأين الذين قطعوا أمهاتهم، وقطعوا خالاتهم، وقطعوا عماتهم؟ بِمَ يلقون الله جل وعلا؟
كل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.