[أثر فقد الإيمان في الحياة]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
فصلِّ يا رب على خير الورى ما صدحت قُمْرية على الذرا
والآل والأزواج والأصحاب والتابعين من أولي الألباب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
أما بعد:
فيا عباد الله: لم يزل كثير من الخلق يلهثون وينصبون، ويسعون ويكدون، فمنهم: من يسعى لجمع المال من أي القنوات.
ومنهم: من يلهث في بهيمية خلف الشهوات وأوضار القنوات.
ومنهم: من يهرول وراء الشهرة والجاه والسلطان في سبات التيه قد أمضى رحلات.
ومنهم: من يعدو وراء الأماني والأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح.
كمهمهٍ فيه السراب يلمح يدأب فيه القوم حتى يطلحوا
ثم يظلون كأن لم يبرحوا كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
ضياع أعمار نفيسة في طلب أغراض خسيسة، أَمَا إنك لو سألتهم جميعاً من وراء ذلك السعي واللهث ما تريدون؟ لأي شيء تهدفون؟
لأجابوك: الحياة الطيبة نريد، إلى السعادة نهدف، نركض ونعدو إلى سرور النفس ولذة القلب، ونعيم الروح وغذائها ودوائها وحياتها وقرة عينها نتوق.
أرادوها فأخطئوا طريقها، وتاهوا فعطشوا وجاعوا، وعلى الوهم عاشوا؛ فصار حالهم كمن سقي على الظمأ بالسراب والآل، وكانوا كمن تغدى في المنام، وفي تيههم فقدوا حاسة الشم والذوق فلم يفرقوا بين الروائح العطرة من الكدرة، ولا العذب في الفرات؛ فشقوا وتعسوا ويظنون أنهم سيسعدون.
غفلوا في تيههم عن داعي الحق على الطريق وهو يندبهم ويقول: مهلاً مهلاً.
والله لا يُسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها، ولا يُذهب غمها وهمَّها وقلقها، ويسد جوعتها وظمأها، ويعيد لها شمها وذوقها، إلا الإيمان بالله رب العالمين بلسم الحياة ومفتاح السعادة، قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:٩٧].
هذا خبر من أيها المؤمنون؟
ينبيك عنه ابن القيم بما ملخصه -في تصرف-: إنه خبر أصدق الصادقين، وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر: أنه لابد لكل من عمل صالحاً مؤمناً أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٦].
وأما الجفاة الأغلاظ لا يعلمون، غلطوا في مسمى هذه الحياة؛ فظنوها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، ولذة الرياسة والمال وقهر الأعداء، والتفنُّن بأنواع الشهوات والملذَّات، حال أحدهم:
إذا تغديت وطابت نفسي
فليس في الحي غلام مثلي
إلا غلام قد تغدى قبلي
فنصف النهار لترياسه، ونصف لمأكله أجمع.
لا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام والبهائم فذلك مسكين ينادى عليه من مكان بعيد، هِمَّتُه هِمَّةٌ خسيسةٌ دنيئةٌ، همة حُشّ.
كل داءٍ في سقوط الهمم يجعل الأحياء مثل الرمم
نامت الأُسْد بسحر الغنم سمت العجز ارتقاء الأمم