للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نزول التوبة على الثلاثة الذين خلفوا]

وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: {بينا أنا أجلس على الحالة التي ذكر الله تعالى في كتابه قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ حتى لا أجد من يُكلمني، بل ولا من يردُّ عليَّ السلام، قد صليت صلاة الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وإذا بي أسمع صوت صارخ بأعلى صوته على جبل سِلْع: يا كعب بن مالك! أبشر.

يا كعب بن مالك! أبشر.

قال: فوالله ما ملكت إلا أن أخرَّ ساجداً باكياً شكراً لله تعالى، وقلت: قد جاء فرج}.

فَلرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المَخْرَجُ

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت وكنت أظنُّها لا تُفرج

وتتنزل التوبة على كعب وعلى صاحبيْه، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله؟ بشرى بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الأوسمة والجوائز.

يقول كعب: {فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُهما إياه لبشراه لي، والله ما أملك غير هذيْن الثوبيْن، فاستعرت ثوبيْن ولبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك.

قال كعب: فدخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله! ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله! ما أنساها لـ طلحة بن عبيد الله.

قال: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور، كأنه فلقة قمر: أبشرْ يا كعب، أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك.

فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عز وجل، ثم تلا قول الله: {لَقَد تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٧ - ١١٨]}.

وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.

يا أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خُرِّجُوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الحديث، وصدق في المواقف، وصٌبر عند اللقاء، واعتراف بالخطيئة، قبول في حال الرضا والغضب من غير تنميق عبارات من أجل تلفيق اعتذارات؛ فهل عقمت النساء أن يلدْن في هذا العصر آلافاً من مثل أولئك الصادقين؟

لا.

لم تعقُم النساء، لكن الشباب والشيب والنساء في حاجة إلى تربية إسلامية تغرس في نفوسهم الصدق والإخلاص، وتُبعد عنهم النفاق والرياء والالْتواء، وتقول لهم بكل عزة:

قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته

فمنَّا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.

اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره.

اللهم أقِم دولة الإسلام في كل مكان، وارزقنا اللهم فيها العزة والقوة والمنعة تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله.

اللهم انصر دينك وكتابك وأولياءك، إنك سميع مجيب الدعوات.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.