أخيرًا! اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن، وإنما وقع في زمن مضى؛ لتعرف ثمرة مراقبة الله -عز وجل- واستشعار ذلك الأمر.
رجل اسمه نوح بن مريم كان ذا نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له ابنة ذات منصب وجمال، وفوق ذلك صاحبة دين وخلق، وكان معه عبد اسمه مبارك لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولكنه يملك الدين والخلق -ومن ملكهما فقد ملك كل شيء- أرسله سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين، واحفظ ثمرها، وقم على خدمتها إلى أن آتيك، فمضى الرجل، وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، ليستجم في بساتينه؛ وليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك! ائتني بقطف من عنب، فجاءه بقطف، فإذا هو حامض، فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض، فأتاه بآخر فإذا هو حامض، فقال: ائتني بآخر إن هذا حامض، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض، وكاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك! أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتيني بقطف لم ينضج، ألا تعرف حلوه من حامضه؟ قال: والله! ما أرسلتني لآكله، وإنما أرسلتني لأحفظه، وأقوم على خدمته، والذي لا إله إلا هو! ما ذقت منه عنبة واحدة، والذي لا إله إلا هو! ما راقبتك ولا راقبت أحدًا من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السَّماء.
فأعجب به، وأُعْجِب بورعه، وقال: الآن أستشيرك -والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن- تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب، واليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين والخلق، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه، والمرء مع من أحب، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة! نظر وقدَّر وفكَّر، وتملى ونظر فما وجد خيرًا من مبارك، قال: أنت حرُ لوجه الله، فأعتقه أولاً، ثم قال: لقد قلبت النظر، ورأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت، قال: اعرض عليها، فذهب فعرض على البنت، وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بـ مبارك، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم.
قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك، فما الثمرة وما النتيجة؟ حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلَّب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حيًا بسيرته وذِكْره الطيب، إن ذلك ثمرة مراقبة الله -عز وجل- في كل شيء.