وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة، العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب كالطود الشامخ، وتقترب منه، وهي لا ترى وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان، ويقول: يا أمَّه! إن الخليفة أوصاني بكِ خيراً، فتصيح به:[[لست لك بأم، إنما أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم]]، ويتقدم ابن عمر مخاطباً عبد الله المصلوب: السلام عليك يا أبا خبيب! السلام عليك يا أبا خبيب، والله ما علمتك إلا صوَّاماً قوَّاماً وصولاً للرحم، أما وقد قال الناس: إنك شرُّ هذه الأمة، أما والله لأمةٌ أنت شرُّها لأمة خير كلها -ثم الْتفت إلى أصحابه قائلاً-: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، ويتقدم ابن عمر إلى أسماء معزياً مواسياً، ثم يقول لها: اتقي الله واصبري، فقالت -بلسان الصابرة المؤمنة الواثقة بموعود الله-: [[يا ابن عمر! وماذا يمنعني من الصبر وقد أُهِدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغِيٍ من بغايا بني إسرائيل؟!]] أرأيتنَّ ما أعظم الأم المربية! وما أعظم الابن المربَّى! لم تلطم خدّاً، ولم تشق جيباً، ولم تنُح، وإنما سلَّمت الأمر لله، فلله الأمر من قبل ومن بعد:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[البقرة:١٥٥ - ١٥٦].