[العمري يعظ الرشيد على الصفا]
ومن ذلك ما ذكر عن سعيد بن سليمان، قال: كنت في مكة في زقاق، وإذا جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد، فقال له إنسان: يا أبا عبد الرحمن! هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، فقال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا؛ ً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً، يعني: ما دام أخبرتني أن أمير المؤمنين في المسعى، فقد كلفتني بأمر عظيم كنت في سعة منه، وكنت غنياً عنه، وهو أن أقوم إلى أمير المؤمنين، فآمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر.
ثم تعلق نعليه -يعني: أخذ نعليه معه- وقام، قال: فتبعته، وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح فيه العمري رحمه الله: يا هارون، فلما نظر إليه هارون.
قال: لبيك يا عمي.
قال: ارق الصفا، فرقي هارون الرشيد، فلما رقيه، قال له العمري: ارم بطرفك إلى الكعبة -يعني: انظر إلى الكعبة-
قال: قد فعلت، قال: كم هم؟ يعني: كم الذين يطوفون حول الكعبة؟
قال هارون: ومن يحصيهم؟
قال: فكم من الناس مثلهم غيرهم؟
قال: خلق لا يحصيهم إلا الله.
قال العمري: اعلم يا هارون الرشيد! أن كل واحد من هؤلاء يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم يوم القيامة، فانظر كيف تكون؟
قال: فبكى هارون الرشيد وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً للدموع.
قال العمري: وأخرى أقولها لك يا هارون.
قال: قل يا عمي.
قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في بيت مال المسلمين.
ثم مضى وهارون يبكي.
فرحمة الله على هارون الرشيد، ورحمة الله على من نصحه، وبهذه القصة العطرة أختم هذه الجلسة المباركة إن شاء الله، والتي طفنا فيها في بعض أخبار العلماء وآثارهم وملحهم رحمة الله عليهم.
وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من العلماء الربانيين الذين يعملون بالكتاب ويدرِّسون كما قال الله جل وعلا: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:٧٩]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:٣٩].
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاَ ولساناً ذاكراً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا وقاراً، ربنا زدنا هدى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.