[ضرورة الصدق في التوبة]
إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين.
بادر قبل أن تبادر! واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحاً خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} [التحريم:٨] ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١]
فلو داواك كل طبيب داء بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفاً منه، مُشْفِقاً، وَجِلاً، باكياً، نادِماً مستحياً من ربه، نَاكِساً الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
روى مسلم في صحيحه: أن امرأة وقعت في كبيرة الزنا في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت، بشعور عظيم بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: {يا رسول الله! طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه -كان يكفيها ذلك- لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ ماعز بن مالك، والله! إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله! قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك.
وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله! قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه -وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله! -قلبها:
كأنه مهجة نِضْو ببلقعةٍ يعتادها الضاريان الذئب والأسد
-
دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان في من رجمها خالد رضي الله عنه وأرضاه، فتنضَّخ الدم على وجه خالد، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً يا خالد! فو الذي نفس محمد بيده! لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له}.
ما ضرها، وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة، بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها.
بالصدق زكا الأصل فطاب الفرع وطاب المولد فزكا المَحْتِد.
فنبِّه فؤاداك من رقدة فإن الموفَّق مَن ينتبه
وإن كنتُ لم أنتبه بالذي وُعِظْتُ به فانتبه أنت به